السبت 2017/07/22

آخر تحديث: 00:19 (بيروت)

بقعة سوداء في الشخصية السورية

السبت 2017/07/22
increase حجم الخط decrease

أبلغتنا أخبار الفضاء، في وكالة ناسا أنّ الشمس مغطاة ببقعة سوداء كبيرة أكبر من الأرض بتسع عشرة مرة. لا يعرف أحد تكوين لحم هذه البقعة التي لم تذوّب النار الصفراء شحمها الصخري حتى الآن.

هذا عيب كبير في الشخصية السورية.

كان خان طوماني لصاً ظريفاً، يسطو على أفكار الزملاء. الأفكار ملقاة على قارعة الطريق، ولا جديد فوق قشرة الشمس سوى هذه البقعة التي تظهر كل 11 سنة مرة.

خان طوماني يحبُّ الظهور، ودور البطولة، وأن يكون فتى الشاشة الأول. هذا داءً سوري وبيل، بل عربي. العراقي يظنُّ نفسه سيد الحضارات، المصري سليل الفراعنة، السوري مخترع الأبجدية، اللبناني فينيق الرماد، وهناك أمير عربي يحكم سبع إمارات، حاول قلب سبع حكومات بعد أن سكر بجرعة بترول متخمر تحت الأرض من مرق لحم الديناصورات.

خان طوماني مشغول بمهنته المقدسة "فيزيو تيربويت"، طبع بطاقة عليها اسمه ومهنته، وعليها رسم لشخصين أحدهما مضطجع على بطنه، والثاني يعزف على فقار ظهره نشيد الصحة. قال: إنه سيوزعها على الناس في الطرقات كإعلان عمل، وقدّم واحدة لماريون على سبيل الدعاية والترويج. ابتسمت المدّرسة، فالألمان يتجنبون الرسم على بطاقات التعريف. أفهمته أنّ شروط العمل في ألمانيا مختلفة، فلا بد من إجازة للعمل، وشهادة تبيح له ممارسة المهنة، وعيادة. كان متفائلاً، وقال: إنه سيذهب للناس في بيوتهم.

دعتنا المدرسة ماريون إلى لعبة أخرى. اللعبة الجديدة اسمها حزورة اللون، سيضمر التلميذ في رأسه عنصرا من الألوان، وسنتابع عينيه، ونحاول معرفة لونه المصطفى، ونبحث عن شيء يطابق اللون الذي اصطاده في رأسه.: مصباح، زر، قبعة دبوس، حذاء إحدى الزملاء، شسع أحد النعال، الدرس هو لتعلم أسماء الإشارة.

خان طوماني يختار أشياء غريبة وصغيرة لا تخطر على بال مثل خاتم في يد باربارا الإسبانية، أو قرط في أذن الزميلة ماريانا، يريد أن يمكث في قصر الحزورة الجمهوري إلى الأبد.

 أغمض طوماني عينيه على لون، فاحتار الزملاء في اسمه، داخوا الدوخات السبع، لعل طوماني اكتشف لونا جديدا ليس بين الألوان السبعة ولا مشتقاتها، عدمان ووقع في سلة تين، لو كان الأمر لي، لاستدرجته إلى الغابة المجاورة، وتعاونت أنا ويوسف الإفريقي عليه شبحا ًعلى شجرة، أو صلباً على الكرسي الألماني. ثم عصبت له عينيه وأخرجت له برتقالة وقلت: حزّر فزّر، أو ليأتيني بسلطان مبين، ثم نتركه جثة هامدة من غير دفن في الغابة. فتكتشف الشرطة الألمانية جثته بعد مدة، وينتشر الخبر في الصحف الألمانية: آثار تعذيب شديد على جثة سوري في الغابة وبجانبه كرسي ألماني. الصحافة الألمانية ستخفي ذكر الكرسي الألماني طبعا، فلها أفضال قديمة علينا، وهي أكرم من أن تذكر فضلها على السجون السورية أو على شعب فلسطين. ثم يصلون إلى المجرمين الذي أكون أنا رئيس عصابتهم، فأماطل، ثم أعترف بجريمتي بعد تحقيق سريع وأقول: قتلته من أجل حزورة. إنه ينطق القاف همزة ويستحق الموت. ثم أقول الحقيقة بعد أن تنجلي عنها البقعة السوداء: وأقول: غرت منه لأنه انتهك شرفي  ودلّك ظهر ماريون، أنا أحب ماريون، من يمسَّ جلدها يجب أن يموت تحت التعذيب. واتهمُ طوماني بأنه داعشي. الألمان سيتعاطفون معي فورا عند ذكر اسم داعش ويطلقون سراحي، لأن داعش مثل المسيح المصلوب تغفر الذنوب جميعا.

 حاول خان طوماني أن يقدّر اللون الذي اختارته خديجة: أخضر؟  

قالت بعد أن عجزنا: لا.. لوني الذي عينته في رأسي رمادي، وتبيّن أنها غيمة تلوح في السماء من النافذة. قال المخادع إنه ذكر اللون الرمادي. لقد حزر. وطالب بالتاج. فأنكرت خديجة دعواه. الأخضر والرمادي لفظان متقاربان في الألمانية، "كرون" و"كراو"، الجميع سمعه يقول أخضر، لكن خان طوماني يحب الفوز دائماً، الحل دائماً على لسانه، حتى إذا أخطأ وصححت له المدرسة جملته نحوياً، قال لها: ولكن هذا ما كنت أقصده! سمعكم سيء. سنأخذ أسماعنا إلى الصيانة.

ناجت المدرسة ماريون أمثل التلاميذ طريقةً في الاستراحة: السوريون بارعون، ومثيرون للإعجاب، وهم من أمهر الجاليات التي وصلت ألمانيا منذ أن عرفت ألمانيا طعم الهجرات، لكنهم يستقتلون في سبيل المركز الأول. هل يمكن أن توضح لي علّة هذ الآفة؟

أسقط في يد أمثلهم طريقةً. لقد أصابت منه مقتلاً.

 قلت لماريون: السوري لا يحبُّ كلمة لا، ولولا التشهد كانت لاؤه نعم. النزوع العرقي مردّه أبواق الإعلام الحكومي، الذي ينفخ في الشعب بالأناشيد الحماسية، تعويضاً عن ذلّ الحاضر بعزّ الماضي، ومن يصدق النشيد يكون مصيره السجن، فينفخه السجان نفخاً حقيقياً بالهواء.

حاولت تلطيف المأساة فقلت: يحاول السوري أن يكون كريماً فيبتسم ويهزّ رأسه لكل شيء.

إن السوري، والعربي عموماً، صاحب عزّة، وكبرياء. ويمكن أن يخسر روحه في مزحة، وذكرت لها أنه بلغ من كرم شكري القوتلي، أول رئيس لسوريا، أنه قدّم سوريا على طبق من ذهب للرئيس المصري، متنازلاً عن الرئاسة في سبيل الوحدة. هذا الإيثار لم نره سوى في السلف الصالح، وقال له: أسلّمك شعباً نصفه "أنبياء" ونصفه زعماء. الأنبياء سكتوا على ظلم عبد الناصر الفرعوني الذي لم يروا مثله من قبل، أما الزعماء فلم يتحملوه سوى أربع سنوات، وهي مدة طويلة. كانت النخبة السورية العسكرية تقوم بانقلاب كل بضعة أشهر، أظن أن سبب هذه البقعة السوداء التي ظهرت في الشخصية السورية هي الفخر، إلى أن استولى الأسد على التاج، فلم يعد في سوريا سوى المستعبدين، لا زعماء ولا أنبياء، بل إله وحيد من غير رسل وبكثير من الزبانية. حوّل سورية إلى مدجنة كبيرة هو ديكها الوحيد. انتهت لعبة الألوان، وصارت بلونين: أبيض وأسود.

ماريون من جمهورية ألمانيا الديمقراطية، وتفهم معنى الدكتاتورية، والألمان يدركونها بسهولة، من مثالهم الذي ورّطهم في دكتاتورية داخلية وحروب خارجية.  أصدقاء لي حذروني من ذكر هتلر، فهي ذكرى مؤلمة يلتبس فيها الألم مع العزة، وقدّرت أنهم يبجلون فيه بطولته بالانتحار على ذل الأسر. أما رئيسنا فيزداد غرورا.

سرّت ماريون من شرح أمثلهم طريقة للمسألة. انتهت الاستراحة، دقّ الجرس وحان الدرس. ضحك ولعب وجد.. وحب. همّ بأن يقول لربّة الحسن الصبوح. إنّ لعبة النرد بأرقامها الحمقاء، والكرة الخالية من الهواء، ألعاب عقيمة.

أما حان وقت لعبة عروسة وعريس...





increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب