الثلاثاء 2017/07/18

آخر تحديث: 00:15 (بيروت)

السيسي..الصرف الصحي للكرامة

الثلاثاء 2017/07/18
increase حجم الخط decrease
بعد أسبوعين تلقت خلالهما قوات الجيش والشرطة ضربات موجعة وشديدة الدموية على يد الإرهاب، في سيناء وعلى حدود العاصمة، وبعد حادثين للطعن استهدفا السياح وحارساً كنسياً، انتفضت الداخلية المصرية صباح الأحد الماضي، للتصدى لمهمة كان الرئيس كان قد أعلن عن عزمه عدم التهاون في تنفيذها. ففي مؤتمر نتائج إزالة التعديات على أرض الدولة، الذي عقد في السابع من تموز/يوليو الجاري، صرح السيسي بأن الحكومة "لن تسمح بتعدي على ترعة أو مصرف أو نهر النيل"، ليضيف لاحقاً بأن "هناك جزر في النيل، طبقاً للقانون، مفروض إنه ما يبقاش حد موجود عليها".

انطلقت قوات الشرطة لإزالة "التعديات" في جزيرة الوراق، والتي أشار إليها السيسي في خطابه خلال المؤتمر نفسه من دون تحديد اسمها، لينتهى الأمر بصدامات مع الأهالي، سقط على إثرها قتيل واحد منهم، وعشرات المصابين. لكن انسحاب الشرطة من الجزيرة لم يبدُ نهاية المطاف، فوسائل إعلام مستقلة نقلت عن الأهالي أن المدارس توقفت عن قبول طلبات الالتحاق بها هذا الصيف، بحجة أن الجزيرة سيتم إخلاؤها في المستقبل القريب، فيما بدأت تظهر بوادر حصار غير معلن للجزيرة من قبل أجهزة الدولة، لمنع الأهالي من الخروج منها أو الدخول إليها، بل ويساور البعض قلق من إحتمال قطع الخدمات الأساسية عن الجزيرة أو بعض مناطقها، من كهرباء ومياه شرب، وغيرها.

وليست هذه هي المرة الأولى التي تسعى فيها الدولة إلى إخلاء جزر نيلية من سكانها. فقضية جزيرة الدهب التي تصدت لها الحكومة خلال السنوات الأخيرة من حكم مبارك، ما زالت حاضرة في الأذهان. لكن الأمر يبدو مختلفاً هذه المرة. فمبارك الذي كان عيبه الأكبر في نظر معارضيه، هو ركونه إلي الجمود والحفاظ على الوضع القائم بأي ثمن، لطالما فضّل التغييرات البطيئة والتدريجية، متحاشياً الصدمات المفاجئة والتي ربما تستدعي الشغب في الشوارع. إلا أن السيسي، والذي صرح بأن موضوع إخلاء الجزر هو أحد أولوياته، ففي تحرره من أي عقد اجتماعي مؤسس لسلطته، على عكس سابقيه، وفي اكتفائه بدعم الجيش وقبضة الأمن الباطشة لترسيخ حكمه، لا يجد غضاضة في سياسات الصدمة، بل ويتعمدها في أحيان كثيرة.

مررت الحكومة، دفعتين من خفض الدعم على المحروقات، ورفع أسعارها، من دون مقاومة على الإطلاق، وذلك في سياق خطة رفع الدعم عن الوقود كلياً خلال العامين المقبلين، وهذا أمر لم يكن أحد يتصور أن تقدم عليه الدولة في عصر مبارك أو غيره. وتداعت المعارضة في وجه التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير تدريجياً، كما لا يبدو أن قضية الوراق ستنتهي على غير هذا المنوال. فالخطاب الذي يتحجج به النظام في شأن إزالة "التعديات" وتهجير السكان، لا يختلف عن خطاباته في القضايا السابقة، والتي بفعلها وبفضل سياسات الخوف، حيّد القطاعات الغالبة من المواطنين. فالجزر النيلية الواجب إخلاؤها، هى بحسب السيسي، محميات طبيعية، وطبقاً للقانون لا يجوز البناء على أراضيها، وهي كذلك أراضٍ مملوكة للدولة. هكذا فإن سكان الجزر في حالة تعدٍّ على القانون، واستلاب لحيازات الدولة العامة. لكن جرم السكان، لا يتوقف هنا. فحجة الرئيس التي ركز عليها، وأعادها أكثر من مرة في خطابه، هي إشكالية مياه الصرف الصحي التي تلقيها "تعديات" الأهالي في النيل. إذن، لا يكتفي "المجرمون" من سكان الوراق، بحسب الحكومة، بخرق القانون وسلب الملكية العامة، بل يدمرون موارد الوطن الطبيعية، ويسمّمون نيله، ويخربون بيئته. ولا يأتي الرئيس أو الحكومة على ذكر مشاريع لبناء شبكة لمعالجة الصرف في جُزُر النيل، أو تطوير الشبكة القائمة، وهي أمور ممكنة تقنياً. وإن كانت تتطلب مخصصات مالية، فهي لا تبدو من أولويات الحكومة، التي تعدنا ببناء عاصمة جديدة بأكملها في وسط الصحراء.

لا يمكن التعويل كثيراً على قطاعات من المواطنين، كان تبريرها الوحيد لمذبحة "رابعة"، في كثير من الأحيان، أن إغلاق الميدان تسبب في مشكلة مرورية، وأن روائح كريهة كانت تنبعث من خيام المعتصمين وفضلاتهم، وكان هذا سبب كافٍ لقتل 800 واحد منهم.. في سبيل الحفاظ على نظافة المدينة. أما نخب المعارضة، التي لم تتجاوز هزيمتها في معركة تيران وصنافير، فتدرك بحس براغماتي حتّمته الانكسارات المتتابعة، أن الجماهير لو لم تنتفض لجزيرتي الكرامة الوطنية، فمن غير المتصور أن تخرج إلى الشوارع دفاعاً عن جزيرة الصرف الصحي وساكنيها من البلطجية، فربما سيواجه أهالي الوراق وحدهم رصاصات الأمن وجرافاته.

ما يثبته النظام اليوم، لنفسه ولمحكوميه، هو أنه مطلق اليد، بلا رادع. وكما أنه يملك سلطة التخلي عن الأرض، فإن له سلطة اغتصابها أيضاً. أما سكان الأرض، فهم موضوعات هامشية لسلطته، يتم إخلاؤهم و تجهيرهم أو صرفهم، ليهيموا على وجوهم بلا مأوى، لأجل المصلحة العامة التي يراها. هكذا، فإن الدولة، أو بالأحرى النظام الذي يسيطر على مفاصلها، هو مالك كل شيء، الأرض والبشر، ليس بالنيابة عن مواطنيه أو بموجب عقد مبرم، بل بالأصالة عن نفسه، وبحكم توكيل شامل وقسري عنهم. توكيل، ليس لصلاحيته أن تنتهي سوى بفرض حقيقة أولوية البشر على الأرض، وأولوية كلاهما على الدولة. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها