الثلاثاء 2017/07/11

آخر تحديث: 00:10 (بيروت)

النزهة الألبانية

الثلاثاء 2017/07/11
increase حجم الخط decrease
استعجلتني الصديقة الألبانية للخروج، فالساعة كانت قد تجاوزت السابعة مساء بقليل، وعائلتها مستعدة للذهاب إلى "الجيرو". كانت سونيلا قد أخبرتني مسبقاً عن طقس النزهة المسائية الذي يمارسه سكان مدينتها، بيرات، مثلهم مثل غيرهم من الألبان من سكان الحضر. لكن المشهد كان استثنائياً ومهيباً. فالمدينة الصغيرة، التي لا يتجاوز عدد سكانها الستين ألف نسمة، بدت وكأن كل سكانها بلا استثناء قد نزلوا في أبهى حللهم للتمشية في صمت، وفي الوقت نفسه. فطقس الـ"جيرو"، أي النزهة، والذي ادخله الإيطاليون مع تصميماتهم إلى الفضاء العام في فترة حكمهم لألبانيا ما بين الحربين العالميتين، تمت مأسساته لاحقاً من قبل النظام الشيوعي. فالشوارع شديدة الإتساع المخصصة للمشاة فقط، في قلب المدن الألبانية، والتي تصطف على جانبيها الأشجار وأعمدة الإنارة، ليست مجرد تصاميم هندسية مشحونة بالرحابة في بلد تعود أصول معظم سكانه إلى الجبال، بل هي هندسة اجتماعية دقيقة للفضاء العام وحركة المواطنين فيه. فالجيرو المسائي الذي كان فعل الترفية اليومي الوحيد والمتاح تحت حكم أنور خوجة، كان معنياً بصياغة شكل من أشكال الفعل الجماعي، من دون كلفة مادية على الإطلاق، في بلد كان  يعاني فقراً مدقعاً. ومع جماعية الجيرو، فإن حركة السير المستمرة تسمح بالتواصل بين المنخرطين فيه، في حده الأدنى، من دون إفراط ربما كان ليثير قلق الدولة. والأهم، أن شوارع النزهة ومسافاتها الطويلة كان المقصود بها، بالإضافة إلى تفريغ الطاقات المعطلة عبر المجهود البدني، هو وضع السكان في حالة أشبه بالعمل وتدريبات اللياقة الأساسية والدائمة حتى في أوقات فراغهم، في ظل بروباغندا سلطة كانت مهووسة بفكرة الإنتاج من جانب وتهديد الغزو الخارجي من جانب آخر.

في الطريق، كانت صديقتي تخبرني كيف تزوج والداها. فوالدتها الأرثوذكسية كانت قد هربت من بيت أهلها للزواج من والدها المسلم، خفية. لم يكن الأمر متعلقاً بالدِّين، فنظام خوجة كان قد ألغى الأديان بمرسوم في العام 1967. لكن الوالد الذي ينتمي إلى أسرة برجوازية صغيرة قبل وصول الشيوعيين للحكم، كان وعائلته مغضوباً عليهم من السلطة ومراقبين بشكل دائم، وكان أيضاً غير جدير بالاقتران بعائلة الوالدة التي حارب أفرادها في وحدات المقاومة الشيوعية ضد الإحتلال النازي، وبالتالي تقلد بعضهم لاحقاً مناصب حزبية، وإن كانت متواضعة، لكنها فرضت تحفظات.

"إذن، فقد انتصر الحب في النهاية!".. كانت تلك دعابتي التي علّقتُ بها على خاتمة القصة، والتي تبعتها الأم بدعابة أخرى: "تعني لقد انتصر الغباء، لو عاد بي الزمن لما تزوجت هذا الرجل المزعج". لكن الأب، الذي لا يفهم الإنكليزية، طلب ترجمة لفحوى الحديث الذى استدعى كل تلك الضحكات، وبمجرد أن حصل على مبتغاه، جاء دوره أيضاً، معايراً/ممازحاً زوجته بلقاء تلفزيوني معها في شبابها، قالت فيه وهي في طريقها إلى التصويت، في حماسة مفتعلة أمام الكاميرات: كل صوت للحزب، هو رصاصة في وجه العدو".

أصبح التصويت في صندوقين - واحد لمرشح الحزب الشيوعي والآخر بلا مرشح - شيئاً من الماضي. لكن ميراث عقود من الديكتاتورية والعزلة الكاملة لم يختفِ. فدعابة التصويت قادتنا إلى الحديث عن الانتخابات التي جرت قبل أسبوع من زيارتي، والتي فاز فيها الحزب الاشتراكي بعدد كاف من المقاعد البرلمانية لتشكيل الحكومة للدورة الثانية على التوالي، وتحقيق غالبية مطلقة لم ينجح في تحقيقها أي من الأحزاب منذ سقوط الديكتاتورية مطلع التسعينات. لم يكن الوالد راضياً عن النتيجة بالطبع، فاليسار يرتبط في ذهنه بالماضي والحكم الشمولي. منح الوالدان صوتيهما لحزب يمين الوسط، الحزب الديموقراطي الألباني، الذي رفع زعيمه، لولزيم باشا، صور دونالد ترامب في جولاته الانتخابيه. لكن أجيالاً أصغر سناً، لا يمثل لها الماضي سوى قصص مكررة من الجدات، صوتوا في غالبيتهم للإشتراكيين.

ويأتي فوز إيدي راما، الكاثوليكي والمتزوج من مسلمة، بمنصب رئاسة الوزراء للمرة الثانية، وبغالبية مطلقة هذه المرة، كتأكيد على تراث طويل من التسامح الديني والتعايش الذي لطالما ميز الدولة البلقانية الصغيرة ذات الغالبية المسلمة. لكن فوز لاعب كرة السلة السابق، والفنان والكاتب الذي تقلد منصب وزارة الثقافة وعمودية العاصمة تيرانا في السابق، يأتي كقطيعة مع مخاوف الماضي، وتلخيصاً لمزاج ألبانيا الجديدة وأجيالها الشابة. راما، الذي وصف ترامب في حديث صحافي العام الماضي بأنه "عار على الحضارة"، اكتسب ثقة المصوتين له بفضل معدلات النمو التي تجاوزت الثلاثة في المئة في دورته السابقة، ووعوده بإصلاح النظام القضائي ومحاربة الفساد من ناحية، وبتسريع مفاوضات الالتحاق بالاتحاد الأوروبي وتنفيذ اشتراطاته من ناحية أخرى.

ما زالت ألبانيا أفقر دول أوروبا. لكن لدى مواطنيها ما يكفي الْيَوْمَ للاستمتاع بصور أخرى من صور الترفية، أكثر من مجرد النزهة الطويلة. وبعد أكثر من عقدين ونيف من سقوط النظام الشمولي، يبدو أن الماضي قد تداعت صوره من الذاكرة. تخبرني سونيلا في نهاية الأمسية، بأن الماضي لم يُنسَ كله: "أنظر، ما زال الجميع يخرجون للجيرو، ونحن فخورون بذلك جداً".   
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها