الثلاثاء 2017/06/27

آخر تحديث: 01:28 (بيروت)

أنهار من دم

الثلاثاء 2017/06/27
increase حجم الخط decrease

تعرفتُ إلى ساجد، عبر صديق مشترك، خلال الأسابيع الأولى لوصولي إلى لندن، أي قبل 11 عاماً من اليوم. كان لقاؤنا الأول في مقر شركته الواقعة في حي "كناري وارف"، منطقة الأعمال المالية الجديدة في لندن، وترك لدي إنطباعاً قوياً جداً، هو خليط من الإعجاب والدهشة. فالرجل الأربعيني، الذي وصل والده من باكستان قبل أكثر من نصف قرن، للعمل في مصانع النسيج في الشمال الإنكليزي، كان نموذجاً مثالياً للإندماج والنجاح الذي يمكن أن يحققه أبناء الجيل الثاني من المهاجرين. فساجد، ذو اللحية الكثة والبنية الرياضية التي تستدعي إحساساً بعدم الراحة للوهلة الأولى -والذي سرعان ما تبدده دماثته وتواضعه الجم- إضافة إلى إدارته لشركته متوسطة الحجم للأوراق المالية، والتي يتشارك ملكيتها مع بريطاني يهودي من أصول بولندية، فإنه يمتلك أيضاً مدرسة صغيرة لتعليم الجولف وشركة لتجارة التجزئة، ويساهم في إدارة أحد المراكز الإسلامية البنغالية في شرق لندن، ويحاضر بين حين وآخرعن الإسلام في محافل حوار الأديان وأمام طلاب المدارس، وفي كل مناسبة ممكنة.

اتفقنا أن نلتقي مرة أو مرتين في الأسبوع، ساعتين في كل مرة، حتى يستطيع ساجد أن يطور مهاراته في الحوار باللهجة المصرية التي كان يسعى لإتقانها. كان الأمر شاقاً في البداية، فمعرفة ساجد بالعربية الفصحى وباللهجة المصرية كانت متواضعة جداً، ولا تسمح لنا بالكثير. لكن، في خلال بضعة شهور، كان ساجد، الذي خصص ساعتين يومياً، بعد صلاة الفجر، لدراسة العربية بالإضافة للدروس المسائية في الجامعة، قد نجح في تحقيق تقدم استثنائي، حتى أصبحت دروسنا تمتد لنهارات كاملة في عطلات نهاية الأسبوع، ولا يكف خلالها عن الحديث عن السياسة في مصر، بخليط من الفصحى والمصرية، وبتفاصيل تستدعي إلماماً عميقاً بكل من اللغة والسياسة.

كان هوس ساجد بتعلم المصرية، والذي لطالما وجدته سبباً لمناكفته ممازحاً، جانباً واحداً من هوس أكبر. ففي لقائنا الأول، وحين سألته عن دافعه لتعلمها، استشهد ساجد بخطبة "أنهار من الدماء" الشهيرة، لعضو البرلمان البريطاني المحافظ والمعادي للمهاجرين، إينوك باول، والتي ألقاها العام 1968 وحذّر باول آنذاك من أن الاستمرار في السماح بهجرة أبناء المستعمرات السابقة إلى بريطانيا سينتهي بأنهار من الدماء. كانت لدى ساجد قناعة بأن باول محق، وأنه وأبناؤه الأربعة لا مستقبل لهم في بريطانيا، فسيأتي اليوم الذي سيُقتل فيه المسلمون في شوارع لندن. كانت الكوابيس التي تداهمه وتمنعه من النوم، منذ بلوغه الأربعين، سبباً كافياً للبحث عن وطن آخر. ولأنه كان يبتغي الانتقال إلى بلد مسلم، وبما أنه كان لسبب ما لا يحبذ موطن والديه، فإن صدفة لقائه برجل أعمال مصري يعمل في مجال العقارات، ومشاركته له في بعض الاستثمارات في مصر لاحقاً، ساعدته في حسم قراره.

طوال عام ونيف، راح ساجد ينقل رأس ماله إلى القاهرة، في مشروع بعد آخر، وكنت أسعى خلال لقاءاتنا الأسبوعية، بلا جدوى، لإقناعه بأن قراره ليس حكيماً، فالأوضاع في مصر التي كان يحلو له وصفها بـ"السلطوية المستقرة" غير قابلة للاستمرار طويلاً، وأن أنهاراً من الدم ربما تسيل هناك قبل أي مكان آخر. لكن نقطة التحول عن قراره المصيري جاءت من حيث لم أتوقع. في وقت مبكرمن أحد صباحات أيلول/سبتمبر2008، هاتفني ساجد، وطلب أن نلتقي على عجل. كان يبدو عليه بعض الاضطراب، وبدأ في الحديث عن قضية مقتل سوزان تميم، وقرار النائب العام المصري بالقبض على رجل الأعمال المصري، وعضو لجنة السياسات في الحزب الوطني حينها، هشام طلعت مصطفى، ومعه ضابط سابق في جهاز أمن الدولة المصري، بتهمة التآمر على قتلها. بدا لي حينها، أن ساجد يعرف شيئاً لا أعرفه، ربما بفضل علاقاته التي وسعها بين رجالات الأعمال في مصر، لكن ما أكتفى بقوله حينها أن ملابسات الجريمة البشعة، والتي بحسبه لم يكن ليُكشف عن مرتكبيها لولا وقوعها خارج مصر، كشفت له مدى تشابك العلاقات الإجرامية بين أهل السياسة والمال والأجهزة الأمنية في مصر، وكان الأمر كفيلاً بأن يصرف النظر عن فكرة الاستقرار في مصر، وإن استمرت دروسنا لعام آخر بعد ذلك اليوم.

ثم انقطعت علاقتنا لفترة، باستثناء تبادل بعض الرسائل النصية بين حين وآخر، كانت واحدة منها صبيحة اليوم التالي لـ"جمعة الغضب"، جملة واحدة مقتضبة منه مشفوعة بأيقونة لوجه مبتسم: "كنت على حق، لم يكن للوضع أن يستمر كثيراً كما هو".

اليوم، وبعد أكثر من عقد على لقائنا الأول، تسيل الدماء حقاً في شوارع لندن، كما هدد باول. وتعود الأمور أسوأ مما كانت عليه في مصر. يخرج هشام طلعت مصطفى بعفو رئاسي، بينما تكتظ السجون بآلاف المحكومين على خلفيات قضايا التظاهر والإضراب والنشر الإلكتروني وغيرها من الجرائم التي تراها المحاكم جديرة بالأحكام الثقيلة. وبعد شهرين على شراء شركة طلعت مصطفى، 500 فدان في مشروع العاصمة الجديدة المتعثر، بقيمة 4.4 مليارات جنيه مصري، يخرج رجل الحزب الوطني بعد قضاء ثلاثة أرباع المدة، في علامة أكثر كشفاً من وقائع القبض عليه وإدانته. تتراجع المنظومة السياسية المباركية التي احتوت طبقة رجال الأعمال في هيئتها السياسية، ومثلت مصالحهم الرأسمالية في شبكة زبونية متبادلة. وذلك، لصالح منظومة جديدة تبدو فيها النخبة العسكرية المنفردة بالحكم اليوم، بفعل عمق أزمتها في إدارة الملف الأقتصادي وعجزها عن تصور إطار للتمثيل الطبقى لمصالحها، غير معنية ببناء شبكات من الزبائنية أو الاسترضاء الطبقي. بل هي منخرطة في عمليات البيع بالتجزئة، من نوع صفقة المرة الواحدة، تارة بالتنازل عن السيادة الوطنية وأراضيها، وتارة بمنح أحكام العفو لمن يدفع.

وهذه المنظومة التي ما زالت في طور التشكل، تستدعي المخاوف على شاكلة مخاوف ساجد في شأن علاقات الفساد والسياسة والمال، والتي لا تبدو اليوم مؤسسة على قواعد لعملياتها يمكن فحصها أو توقعها. بل والأفدح، أنها لفرط عشوائيتها وإنتهازيتها اليائسة، تفتح، بأثر رجعي، مزاداً لبيع صكوك القتل لمن يقدر على الدفع. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها