الثلاثاء 2017/05/09

آخر تحديث: 07:48 (بيروت)

الجزائر: مستقبل مصر وماضيها

الثلاثاء 2017/05/09
increase حجم الخط decrease
القليل هو ما يعرفه المصريون عن الجزائر. فغير فيلم "جميلة"، وصُور بوتفليقة في كرسيه المتحرك، والعداوة المتوارثة من مباريات كرة القدم، فإن ما نعرفه عن بلد المليون شهيد محدود جداً. لا تتعدى تصوراتنا عن المغرب العربي إجمالاً، سوى القليل من الصور الكاريكاتورية، التي لا تثير الضحك بقدر ما تضللنا. فالساسة في المغرب يقبّلون يد الملك وكفى، فماذا نريد أن نعرف أكثر من هذا! ورجل يحتضر يحكم الجزائر، البلد التي ما إن تذكرها حتى تتداعى صور ماجدة الصباحي في أذهان الكثيرين، ومعها شغب المدرجات الكروية. بالكاد نعرف أن انتخابات في الجزائر جرت قبل أيام، بينما كان الجميع منشغلاً بسباق الرئاسة الفرنسي، الذي تابعه الجزائريون أنفسهم باهتمام أكبر من انشغالهم بانتخاباتهم البرلمانية. لكن لا لوم، فنحن بالكاد نعرف ما يجري في سيناء أو حتى ضواحي القاهرة، والجزائريون أنفسهم لم يصل لهم الكثير مما كان يجرى في "عين صالح" واحتجاجاتها قبل عامين، سوى بالقدر اليسير الذي نقلته وسائل الإعلام الفرنسية.

عندما بدا واضحاً عزم الجيش المصري على التدخل لعزل الرئيس محمد مرسي، قبل 30 يونيو بأيام، أضحى "النموذج الجزائري" مصطلحاً متداولاً لوصف ما يمكن أن تؤول إليه الأمور. للبعض، كان نموذج الدموية، خياراً وحيداً ممكناً، إنقلاب عسكري تعقبه فترة من الإضطرابات تنتهي بتصفية للإسلاميين وحالة من الاستقرار المقيدة. فيما كان البعض الآخر يرى في المصير الجزائري كوابيس "العشرية السوداء"، ومئتي ألف من القتلى. مصر بدأت بالفعل عشريتها السوداء. الحرب على الإرهاب، لم تعد "حرباً" مجازية، بل حرباً أهلية مصغرة بالفعل، تقفز أعداد ضحاياها من خانة المئات إلى خانة الآلاف، والعدد في ازدياد يومياً، مع تمدد دؤوب لرقعتها.

الإستقرار الجزائري يبدو واعداً للبعض. فبعد عقد من الأثمان الباهظة التي كان من الواجب دفعها بأي حال في نظرهم، تبدو الجزائر، البلد العربي الوحيد في شمال أفريقيا الذي مرت عليه موجة الانتفاضات العربية من دون أن تمسه، حال استثنينا المغرب الذي سارع نظامه إلى طرح تعديلات دستورية لاحتواء البوادر الأولى للاحتجاجات. لكن هل حقاً يمكن للنموذج الجزائري أن يكون مستقبل مصر؟ أي هل للعنف أن يبلغ ذروته قبل أن تصل الأمور إلى حالة من الاستقرار تضمنها صور مخففة من القمع؟

تغري التماثلات بين إنقلاب 1992 في الجزائر، و30 يونيو في مصر، بالميل إلى الإجابة بنعم، لكن مراجعة سريعة للنموذج الجزائري وما وصل إليه اليوم ربما تقودنا إلى نتائج مختلفة. فالاحتراب الأهلي الجزائري، لم ينتهِ سوى بطريق طويل وشاق من المفاوضات مع الجماعات المسلحة، وتُوّج بالاستفتاء على "ميثاق السلم والمصالحة الوطنية" العام 2005، وبإطلاق سراح قيادات "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" في العام اللاحق. في المقابل، فإن النظام المصري، الذي لا يجد في التمرد المسلح المقتصر على سيناء تهديداً كافياً لإرغامه على الانخراط في عملية للمصالحة الوطنية، يبدو عازماً على استعداء وقمع حتى المعارضة العلمانية، جنباً إلى جنب مع الإسلاميين الذين لم يتورطوا في العنف.

وبالإضافة إلى المسار التفاوضي الذي لجأ إليه اليمين زروال، ومن بعده بوتفليقة، مع العمليات العسكرية ضد الإسلاميين، فإن نظام الرأسمالية الزبائنية الذي مولته مداخيل النفط والغاز الجزائري، سمح باكتساب ولاء قطاعات واسعة من السكان الذين اعتمدوا بشكل واسع على برامج الدعم الإجتماعي السخي والخدمات العامة الحكومية خلال العقدين الماضيين. وهو الأمر الذي لا يتوافر في الحالة المصرية، حيث يبدو العامل الاقتصادي سبباً للتململ، أكثر منه دافعاً للاستقرار.

لكن الأمر لا يتوقف عند نفي تكرار "النموذج الجزائري" بحذافيره في مصر، وللمفارقة فإن الجزائر تبدو بشكل أو بآخر في طريقها إلى تكرار الماضي المصري. فبوتفليقة، رجل الجزائر المريض، الذي أسس شعبيته على تأمين خروج الجزائر من حربها الأهلية الدموية، لا يبدو بعيداً من مبارك المسن في أيامه الأخيرة في الحكم، والذي كان بدوره قد اكتسب شرعيته من حربه الطويلة ضد عنف الجماعات الإسلامية المسلحة التي اغتالت سلفه، ونجاحه في تأمين حد أدنى من الاستقرار. فتراجع أسعار النفط عالمياً خلال الأعوام القليلة الماضية، دفع النظام الجزائري إلى تطبيق سياسات تقشفية واسعة، أخلّت بقدرته على الألتزام بالعقد الإجتماعي الزبائني الذي لطالما اعتمد عليه في الحفاظ على ولاء مواطنيه. وفي العامين الأخيرين، ومع استفحال الأزمة الاقتصادية، تحول النظام الجزائري الذي لطالما تعامل في السابق مع الاحتجاجات ذات المطالب الأقتصادية والإجتماعية باللين، نحو استخدام متزايد للعنف، خصوصاً في احتجاجات عين صالح العام 2015، ومسيرة المعلمين المتعاقدين نحو العاصمة في 2016. في مطلع العام الحالي، كانت الاحتجاجات ضد الموازنة الجديدة، والتي امتدت من منطقة القبائل إلى العاصمة، مصحوبة ببعض العنف، قد دفعت الحكومة الجزائرية إلى ردود أفعال عصبية غير معتادة، فاتهمت المحتجين بمحاولة زعزعة الاستقرار في الجزائر، ودعت المواطنين، في حملة اعلامية شعبوية منسقة، إلى رفع أعلام الجزائر على نوافذهم للتعبير عن رفضهم للفوضى.

وجاءت نتيجة الانتخابات البرلمانية الجزائرية الأخيرة بلا مفاجآت، ففيما احتفظ حزبا "جبهة التحرير الوطني" و"التجمع الوطني الديموقراطي"، المواليان، بغالبية مريحة، نالت الأحزاب العلمانية والإسلامية المعارضة نسبة من التمثيل البرلماني كالمعتاد. لكن الإقبال المتواضع للناخبين على صناديق الاقتراع، مع تصاعد وتيرة الاحتجاجات الإجتماعية والاقتصادية، وعجز الحكومة عن تلبية مطالبها كما في الماضي، بالإضافة إلى الغموض المحيط بمستقبل انتقال السلطة بعد بوتفليقة، يدفعنا إلى الاعتقاد بأن "النموذج الجزائري" ربما يكون مستقبل مصر، كما هو ماضيها أيضاً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها