الثلاثاء 2017/05/23

آخر تحديث: 11:33 (بيروت)

عن جدوى السياسة في مصر

الثلاثاء 2017/05/23
increase حجم الخط decrease
وصل عدد الموقوفين في الحملة الأمنية التي شنتها وزارة الداخلية المصرية، حتى صباح الأمس، إلى 40 من أعضاء أحزاب علمانية، من بينها "الدستور" و"التحالف الشعبي" و"العيش والحريّة" في عشر محافظات. ومع أن الحملة استهدفت بعض منتسبي الأحزاب في القاهرة والإسكندرية، الا أن اللافت للانتباه هو تركيز الحملة على الأقاليم، سواء في الدلتا أو الصعيد. وفيما ينسب البعض الحملة إلى توجس النظام السياسي من إمكانية طرح المعارضة أسماء قادرة على المنافسة في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وبالأخص مع صعود حظوظ خالد علي، كمرشح محتمل، على خلفية قضية جزيرتي تيران وصنافير، فإن البعض الآخر يفترض أن الحملة لا تتعدى الإجراء الروتيني، بل وربما تتعلق بحركة الترقيات المقبلة في وزارة الداخلية.

لكن، بغض النظر عن دوافع الحملة، تبدو كلفة القمع منخفضة جداً، إن لم تكن معدومة بالكامل، بالنسبة للنظام. فحتى الاتهامات التى وُجّهت للموقوفين، والمتعلقة بتدوينات في شبكات التواصل الاجتماعي، تكشف سهولة استهداف المعارضين وترويعهم، على خلفية اتهامات هشة وفضفاضة لا تتطلب مجهوداً يذكر من الجهات الأمنية لإثباتها. وفِي المقابل، فإن الأحزاب السياسية عاجزة عن القيام بردّ فعل مؤثر، يتجاوز البيانات المنددة بموجة أخرى من موجات الترهيب السياسي المتتابعة.

وسياسات القمع الكسول تلك وكأنها، من فرط طمأنينة القائمين عليها، أو فزعهم المبالغ فيه، لا تبدو هادفة إلى هندسة المشهد السياسي أو تحييد أي بدائل محتملة قادرة على مناكفة النظام، بقدر ما تسعى إلى تفعيل مؤسساتها الأمنية بشكل روتيني ودوري، ليضحي القمع هدفاً في حد ذاته، وطبيعة للأمور، لا الاستثناء. ما يدفع إلى التساؤل عن معنى العمل السياسي وجدواه في الوقت الحالي في مصر. ففي مقابل انعدام كلفة القمع بالنسبة إلى النظام، تبدو أثمان الانخراط في العمل السياسي العلني، وحتى في الحدود التي يسمح بها النظام الحاكم نفسه، باهظة جداً.

هكذا، هناك من يرى أن الوضع القائم في مصر الآن يفتقر إلى الحد الأدنى من الشروط اللازمة للانخراط في العمليات السياسية، ولو بشكل صُوري، وبالتالي فإن خيار المشاركة السياسية هو حماقة مجانية، أو استشهادية طوباوية في أفضل الأحوال. وفي الجانب الآخر، فإن الأقلية التي ما زالت متمسكة حتى الْيَوْمَ، بخيار المشاركة السياسية، ومع إقرارها بالأثمان الباهظة لذلك القرار، لا تجد بدّاً من دفعها. فالبديل هو استسلام لن يعفي أحداً من بطش الآلة القمعية، ولا يضمن اتقاء شرّها.

يحمل الموقفان منطقاً يمكن تفهمه، وتعود المفاضلة بينهما إلى تصورات متنافسة، عن حركة التاريخ، بين من يراها محكومة بأسباب موضوعية تحتم على الأفراد اللحاق بها وتحيّن لحظاتها الفارقة، وبين مَن يرى التاريخ ممكناً فقط عبر التصدي له ومناكفته والوقوف في وجه شروطه وتغييرها. وعلى المستوى الأخلاقي، هناك دائماً من يرى في السياسة وسيلة، لا غاية، بحس براغماتي سليم، لا يقلل من أخلاقيته، في مقابل من يرى الانخراط السياسي في وجه الاستبداد واجباً ضميرياً في حد ذاته لا يمكن التخلي عنه.

في النهاية، فإن وجود الموقفين، وتنوع مرجعياتهما الإيديولوجية والأخلاقية، يبدو أمراً مفهوماً وربما يكون ضرورياً أيضاً. فكلاهما، وبشكل عملي، يتفقان على جدوى السياسة وضرورتها إيديولوجياً، ووجوبها أخلاقياً. والإختلاف بينهما أقل مما يبدو للوهلة الأولى، ويتعلق بتوقيت الفعل السياسي وشروطه وتقييم أخطاره وضرورته، وهي أمور يمكن تقديرها فقط عبر جدل بين الموقفين ونقاش دائم بين أصحابهما.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها