الثلاثاء 2017/05/16

آخر تحديث: 07:59 (بيروت)

يا لثارات صلاح الدين

الثلاثاء 2017/05/16
increase حجم الخط decrease
لم يكن المصري يوسف زيدان "الروائي والمؤرّخ!" غافلاً عن الزوبعة التي سيثيرها، فقوله أن صلاح الدين من أحقر شخصيات التاريخ الإنساني بمثابة شتيمة واضحة متعمدة، وهو كان يدرك سلفاً أنها ستُقابل بردود أفعال غاضبة كالتي شهدناها في الأيام الأخيرة. المسألة ليست في تفنيد ما قاله المذكور من جهة دقته تاريخياً، ولا في تحميل الردود الغاضبة مسؤولية الانزلاق إلى جدل تاريخي يُفترض أن أوانه قد انقضى منذ زمن بعيد. نحن إزاء طرف يعرف أن شتيمة صلاح الدين ليست سوى استعارة تهدف إلى شتم أناس أحياء في معتقداتهم، وأن أولئك الأحياء وصلتهم الإهانة فانبروا للدفاع عن أنفسهم ومعتقداتهم عبر الدفاع عن صلاح الدين.

لولا أنها في الأصل شتيمة لتذكر يوسف زيدان سلسلة لا تنتهي من الإجهاز التام على عائلات مالكة في الغرب والشرق من قبل حكام آخرين انقلبوا عليهم، أو غزوا بلادهم، الأمر الذي لا يختص به صلاح الدين من دون البقية ولا يجعله "الأحقر"، إذا أخذنا كافة الاتهامات الموجهة إليه من خصومه على محمل المصداقية. لكن استجلاب التاريخ لاستثماره معاصراً ليس من اختراع زيدان، وإن كان لا يليق "بمعزل عن الشتيمة" بمن يدّعي الموضوعية والحيادية، لأن الموضوعية والحيادية تقتضيان قراءة التاريخ في التاريخ، أما استخلاص العبر منه فتقتضي دفنه والتصالح معه كما حدث من قبل قرّائه الذين يتخلون حينها عن نزعتي التمجيد والتبخيس الذاتيتين.

في باب الموضوعية مثلاً قد يدخل القول بأن شخصية صلاح الدين قد تعرضت لتنقية مسيّسة أيضاً، دون اتهامه بالأحقر، ويمكن القول أيضاً بأن الرجل كان ابن ثقافة زمنه، ولا يملك حساسية اليوم إزاء قضايا مثل حقوق الإنسان، أو حقوق الجماعات. يمكن القول حتى بأن شعبية صلاح الدين في سوريا تتناقض مع إحساس مصري بأنه قضى على ما يراه بعض المصريين عصر ازدهار تأسست فيه القاهرة التي يعتز بعض أبنائها بوصفها "أم الدنيا". وربما هذا ما جعل شتم الأكراد في الدراما والأفلام المصرية أمراً شائعاً ومقبولاً لا تمنعه الرقابة، فتعابير من نوع "مستكردني" أو "أنت بتستكردني؟!"، يمكن فهمها بسبب قضاء صلاح الدين على الخلافة الفاطمية، الأمر الذي يشكّل جريمة تمييز معاصرة تنتشر مع انتشار الفنون المصرية، وكان حرياً بزيدان الانتباه إليها عندما انتقد معرفة بعض المصريين بشخصية صلاح الدين فقط من خلال دور سينمائي أداه الممثل أحمد مظهر.

لا يخرج يوسف زيدان عن موجة ثقافوية ترى الحاضر من خلال التاريخ المَهْجوّ، وهجاء التاريخ الإسلامي هنا ينطلق من فرادته الدينية، وصولاً إلى النص الديني نفسه، دون أن تؤخذ أطوار الدول الإسلامية ضمن تاريخيتها، وضمن ثقافة عصرها المشابهة. مشكلة الحاضر تصبح في التاريخ، المتضمَن نصاً مقدساً وثقافة محايثة له، لا في التاريخ بوصفه تاريخاً منفتحاً، ويكاد يكون منفتحاً ومتسقاً على النحو الذي نتحدث فيه اليوم عن ثقافة عصر. هكذا يُختصر نقد الظاهرة الدينية مثلاً إلى نقد الإسلام السني تحديداً، فلا تؤخذ الظاهرة بتنوعاتها الكبرى، وبانتشارها الواسع، أو حتى باستمرار انتشار الغيبيات عالمياً على رغم التقدم العلمي والتكنولوجي.

إلا أن أهم ما في استيراد التاريخ على هذا النحو هو جعله حاضراً، لا بمعنى محاولة استلهام العبر منه. في الواقع لم تعد ثمة حاجة حتى إلى استلهام العبر من التاريخ على نحو ما كان دارجاً بالمعنى التقليدي، فاليوم توجد إمكانية حقيقية لاستلهام الدروس من الحاضر، ومن تجارب الأمم الأخرى، والاستفادة مما تقدمه العلوم والتكنولوجيا، بحيث يتضاءل ذلك الدور التوجيهي للتاريخ. مشكلة زيدان وأمثاله هي في القول أن المشكلة أساساً في الماضي أو في قراءتنا له، أي أننا سنبقى عاجزين عن حل مشاكل الحاضر ما لم يُصفّى ذلك الحساب مع التاريخ. وإذا أخذنا في الحسبان أن عملية التصفية المطلوبة ربما تستغرق قروناً إضافية أخرى تصبح كل الحلول مؤجلة حتى انتهاء ذلك الاستحقاق.

القول بخصوصيتنا التي تجعلنا غير مؤهلين حضارياً يشبه تماماً القول بخصوصيتنا الثقافية التي تجعلنا نمتنع عن التحول الديمقراطي، وهذه كما نعلم ذريعة قوى الاستبداد الحاكمة والطامعة بالحلول مكانها. في هذه المقولات التي تنطلق من أرضيتين متقابلتين لا مكان للتصالح مع التاريخ، بما أنه ما يزال فاعلاً متفوقاً على ما عداه من ظروف راهنة، فالطرفان ينظران إلى شعوب المنطقة بوصفها كتلاً تاريخياً، لا تتعين كأفراد وجماعات بمطالب زمنية معاصرة. جعلُ المشكلة ثقافوية على هذا النحو يتجاهل عمداً دور القوى المسيطرة في بعث التاريخ واستثماره حاضراً، لأنه يجعل المسؤولية مشاعاً بالتساوي، بل يكاد يضعها أولاً على عاتق أولئك المجرّدين من السلطة والثروة.

لا يقدّم زيدان وأمثاله مثلاً جيداً في التصالح مع التاريخ، فضمن التصالح هذا يتعين عليه القبول بصلاح الدين على النحو الذي يقبل فيه دسائس وانقلابات الدولة الفاطمية التي أدت إلى إضعافها وانهيارها، وأيضاً إلى قبول الصراعات السياسية/المذهبية والتصالح مع نتائجها بحكم أنها حدثت وانتهت، أو ينبغي العمل على نهايتها وبناء الصراعات المعاصرة على أسس مغايرة. إن واحداً من الأمثلة الذي تقدّمها حقبة صلاح الدين ذلك العداء الذي انقلب إلى تحالف بينه وبين القائد الإسماعيلي سنان راشد الدين، ما يعني تجاوز العداء السني الإسماعيلي لأسباب سياسية، مثلما كان قد انبنى أصلاً على أسباب ومطامع سياسية، بل مثلما يمكن ردّ كافة الانشقاقات المذهبية إلى أسباب سياسية.

يصادف قبل الزوبعة التي أثارها يوسف زيدان أن تشهد المنطقة بأكملها مأزق استثمار التاريخ للتهرب من استحقاقات معاصرة، هذا ما نشهده مثلاً في دفع الثارات الشيعية وشعارات من نوع "لن تسبى زينب مرتين" بغية القضاء على الثورة السورية، والدفاع عن المصالح الإيرانية في المنطقة. وكما نعلم، تعامل الزينبيون والفاطميون مع السوريين بوصفهم أحفاد يزيد، ما اقتضى ردة فعل طائفية لا تتناسب حتى مع الموروث السني السوري التقليدي. وإذا كان من دور إيجابي حقيقي للمثقف في مواجهة قوى التسلط التي تستثمر التاريخ فهو يبدأ مع تعزيز قطيعة زمنية مع التاريخ من حيث أنه حدث وانتهى، ولا إمكانية اليوم لتغييره. وأيضاً من حيث الانتصار لمنطق التاريخ، لا لمنطق الرغبات الذاتية، فما حدث كان في زمنه الاحتمال الأقوى حدوثاً بصرف النظر عن قضايا مثل الحق والعدالة كما نراها من منظورنا اليوم. هذه كانت مسيرة الحضارات والإمبراطوريات عبر التاريخ الإنساني كله، وهو تاريخ صراع ومآسٍ بالمعنى الإنسانيوالأخلاقي الصرف، فضلاً عن أنه تاريخ تطور وتحضر.


الانحياز الشخصي "سلباً أو إيجاباً" إزاء شخصيات أو وقائع تاريخية ليس عيباً في حد ذاته، لكنه يفقد ذاتيته إذ يدعي الموضوعية، أو عندما يكون موجهاً لإهانة جماعات أخرى، أو من أجل الاستثمار السياسي المباشر. هذا ما ينبغي أن يميزه جيداً المثقف، دون إعطاء الأخير أية مرتبة اجتماعية خاصة، ولعل أفضل ما يفعله مثقف اليوم هو تخليص الحاضر مع محاولات إغراقه بالتاريخ. في الواقع لا تختلف شتيمة يوسف زيدان لصلاح الدين عن شتائم آخرين لشخصيات مثل عمر أو معاوية، وقد لا تختلف ردود الأفعال التي أثارها عما تثيرها شتائم طائفية واضحة، والعبرة الوحيدة أن التسامح الغائب مع التاريخ يعكس رغبات التسلط في الحاضر. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها