الثلاثاء 2017/05/16

آخر تحديث: 07:53 (بيروت)

لم يعانق أحد التاريخ اليوم

الثلاثاء 2017/05/16
increase حجم الخط decrease
في الطائرة، ناولتني المضيفة الجوية، جريدة "الصباح". الصفحة الأولى مكللة بعنوان رئيسي غير متحفظ: "أتمنى أن يعانق رئيس الجمهورية الْيَوْمَ التاريخ". وبعد ساعتين ونصف الساعة من الإقلاع، كان مطار قرطاج يستقبلني مع غيري من المسافرين بلافتات بلغات عديدة، ترحب بِنَا في تونس ذات "الثلاث الآف سنة حضارة".


لكن هناك فرقاً بين التاريخ بوصفه رقماً في خانة الالآف يضاف إلى رصيد الحاضر، وبين التاريخ كحدث آني يُصنع كل يوم. ففي مصر كان للتاريخ شأن آخر. فعلى مدى اليومين السابقين، استشرى جدل ممزوج بالغضب حول تعليقات الروائي المصري يوسف زيدان، على "أسطورة صلاح الدين"، وبات محور الاهتمام العام. لم يكن من الصعب تصور أسباب العصبية التي سيطرت على أطراف الحوار، في ظل وضع سياسي ميت بالكامل. فالشخصية التاريخية التي لم تنل موقعها المحوري في المخيلة الجمعية المصرية سوى في وقت متأخر، وربما بفضل التدوينات الغربية عنها، كان لها أن توظف في تدعيم روايات تاريخية بعينها وهويات سياسية ودينية عديدة، متراكبة أحياناً ومتناقضة أحياناً أخرى. فبين السردية الوطنية المقاومة للاستعمار، ورواية الصراع الأزلي بين الإسلام والغرب، مروراً بالهوية الإسلامية الجامعة، والسنّية تحديداً، في مواجهة شيعية الفاطميين، وصولاً إلى مروية التسامح وتعايش عنصري الأمة في مصر، التي يبدو منهلها الوحيد هو فيلم يوسف شاهين "الناصر"، فإن الطعن في الرواية المعتمدة عن صلاح الدين، لا تبدو زعزعة لتمثلاته التاريخية الأحدث وتناسخاته من زعماء العروبة من محرري القدس، بل تبدو هدماً لما تبقى من سرديات مؤسِّسة لوعينا الجمعي، لا تجد ما يعززها من الحاضر، فلا يمكنها سوى أن تقتات على الماضي، نصف المختلق في معظم الأحيان.

في اليَوم التالي، كان علي أن أقضى بضع ساعات من النهار مع صديقي الجديد، بلال، الذي تعرفت عليه من دون ترتيب مسبق، والذي لم يتوقف عن استعراض مهاراته في الحديث باللهجة المصرية ومعارفه الواسعة بعالم القفشات الكوميدية المصرية كلما سنحت الفرصة. لكن حديثنا لم يخلُ من بعض الجد أيضاً. فبعد ساعتين من المزاح التلفزيوني، بدا على وجه بلال القليل من الصرامة حين سألني عما إن كان ما سمعه عن رأفت الهجان صحيحاً، أي هل كان بالفعل عميلاً مزدوجاً؟ لكن إجابتي التي افتقدت لقدر مرضٍ من التأكيدات، أصابت صديقي التونسي بالإحباط، الذي سرعان ما تجاوزه بعدما اكتشف محدودية معارفي في ما يخص الدراما التلفزيونية المصرية، مقارنة بما يعرفه هو.

لم يكن لقائي القصير والممتع ببلال، وحده الذي دار على حدود تقاطعات الواقعي والسينمائي والفانتازيا التلفزيونية. فالبطولات القومية، من صلاح الدين وصولاً إلى عمليات المخابرات المصرية في تل أبيب، وذاكرتنا التاريخية الجمعية إجمالاً، تبدو مدينة لشاشة السينما والمواسم الرمضانية التلفزيونية الدسمة بقدر ليس بقليل.

لم تتح لي الفرصة للتأكد إن كان بلال قد اطلع على المراجعات الذاتية لتلك السرديات، بدءاً من فيلم "رجال لا تعرف المستحيل"، مروراً بفيلم "الناظر" (بطولة علاء ولي الدين وكان العنوان قبل الرقابة "الناظر صلاح الدين")، وحتى فيلم "الحرب العالمية الثالثة"، والتي وإن لم تكن معنية بإعادة فحص التاريخ نفسه، فقد سعت للانتقام من مروياته التلفزيونية والسينمائية تحديداً، وإهانتها بالقدر اللائق بها عبر الباردوي. لكن السخرية من التمثلات التاريخية وتفكيك مبالغتها وكشف تناقضاتها، لم تنزع هالة التوقير عن تراثنا التلفزيوني والسينمائي فقط، بل وزعزعت قداسة شخصياتها وأحداثها التاريخية، حتى ولو عن غير قصد.

تجيء تعليقات زيدان، الذي لا يخفي تضمينه للتاريخي في أعماله، بوصفه المادة الخام للاختلاق، متأخرة جداً وهشة، بقدر ادعائها امتلاك السردية التاريخية الأدق. لكن ردود الأفعال الغاضبة تجاهها تكشف بلا شك، أزمة، لا تتعلق فقط بتمثلات التاريخي عن الماضي، بل والأهم تتعلق بالاشتباك مع التاريخ بوصفه صيرورة دائمة وآنية في الحاضر.

لاحقاً، اخبرني مضيفي المصري، والذي قضى الأعوام الثلاث الماضية في تونس، بأن خطبة الرئيس التونسي صباح يوم وصولي، والتي تطلع إليها الجميع على خلفية الأزمة المتعلقة بقانون المصالحة، لم تأت بجديد. وأضاف في تهكم يشوبه قلق:"لا، لم يعانق الرئيس التاريخ اليوم...والناس محبطة".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها