السبت 2017/04/22

آخر تحديث: 11:54 (بيروت)

بيضة القمع ودجاجة الإرهاب

السبت 2017/04/22
increase حجم الخط decrease
لا يشترط أن يتعرض الإنسان لظروف معيّنة حتى يصاب بالمرض. قد يمرض الجسد من تلقاء ذاته، يضطرب القلب أو يفشل الكبد أو تُسرطن الخلايا، لأسباب جينية بحتة، حتى لو عاش الإنسان في أفضل الظروف.

ومع ذلك، فإن ظروف الحياة السيئة، الأكل الفاسد والهواء الملوث والبيئة المعدية، أو حتى الضغط العصبي والإنهاك، كفيلة حتماً -عاجلاً أم آجلاً- بأن تُمرض الجسد، والعقل أيضاً.

أمامنا إذاً، بلغة الرياضيات، احتمالان، الأول "س"، وفيه قد يمرض الإنسان – من تلقاء نفسه - أو لا يفعل. والثاني "ص": ثمة مرض مؤكد في الطريق نتيجة الظروف المُمرضة، إذا أضفناها إلى الاحتمال "س" (احتمال المرض الذاتي بنسبة 50%)، يرتفع جداً معدل الإصابة، التي قد تكون مرضاً جسدياً، أو اجتماعياً.

في مواجهة الخطاب الذي استشرى لسنوات طويلة، والذي ردد بلا كلل أن "الإرهاب هو نتيجة القمع والفقر، والاستعمار"، صعد خطاب مضاد في سنوات ما بعد 11 أيلول/سبتمبر وصولاً إلى اليوم، يتساءل عن دوافع الكثير من الإرهابيين ممن لم يشهدوا قمعاً أو فقراً. فبعضهم من عائلات مرموقة –ولو فقط على المستوى المالي- وكثير منهم حاصل على تعليم عال، بل إن معظم من نفذوا الهجمات الإرهابية الأخيرة في أوروبا، وآخرهم الداعشي "أبو يوسف البلجيكي" منفذ هجوم الشانزليزيه، هم مواطنون أوروبيون، لم يعانوا ما شهده أبناء العالم الثالث من قمع منهجي وفقر شبه دائم ومجتمع بلا قانون.

يستند الخطاب الثاني –الذي يرفض الربط بين القمع والإرهاب - إلى أسباب فكرية خالصة، ترى الإرهاب ابناً مباشراً للمتون الدينية أو الأيديولوجية المفسّرة لها. هكذا، ومن خلال الربط بين تلك القراءات والنصوص الدينية، وبعض المظالم السياسية (أو ما يُرى على أنه مظالم)، يمكن تحويل أي شخص أو مجموعة إلى خلية نائمة قد تستيقظ في أي وقت، ولا يلزمها ارتباط مباشر بالتنظيم الأم، بل أفكار وتعليمات وطرق صنع قنابل عبر الانترنت، تنفجر في النهاية في هذا الشارع أو ذلك المتحف أو دار العبادة المخالفة للمهاجم دينياً أو مذهبياً.

لكن هذا الربط الحصري بين الإرهاب، و"الأفكار" المؤدية له، مع استثناء أي ظروف مصاحبة، لا يهدف إلى مجرد الإجابة على السؤال السرمدي: هل يؤدي القمع إلى الإرهاب أم يؤدي الإرهاب إلى القمع؟ البيضة أم الدجاجة؟ بل يهدف هذا الربط –سياسياً - إلى إتاحة الفرصة كاملة لمنظومة القوة كي تتولى وحدها علاج مشكلة الإرهاب. هنا، يصبح كل شيء مباحاً، القبض والاحتجاز والاعتقال لمُدد مفتوحة بلا محاكمة، تطبيق القوانين والإجراءات الاستثنائية، بل التعذيب وحتى التصفية الجسدية. وتفيد تلك الإجراءات- في نظر مؤيديها – في حل مشكلتين، الأولى: مصارعة الإرهاب باللغة التي يفهمها "لا يفلّ الحديد سوى الحديد". والثانية، تبرئة تلك الإجراءات نفسها من التسبب في استمرار –وربما استشراء- الإرهاب. لأن الإرهاب، كما تقدّم، ينشأ "من تلقاء نفسه"، لأسباب ثقافية بحتة، بغض النظر عن القمع الموجود في بنية مجتمعه ونظمه السياسية.

وقد يكون صحيحاً أن أسامة بن لادن لم يكن فقيراً، وإن الظواهري لم يكن أمّياً، وإن "جون الجهادي" ذبّاح "داعش" لم يكن مقموعاً. بل صحيح أن ثمة إرهابيين "بيض" من قبيل النروجي أندرس بريفيك، مرتكب مذبحة جزيرة أوتويا. لكن الصحيح أيضاً أن أقوى تنظيمات الإرهاب وأكثرها شراسة، مثل تنظيم "داعش" نشأت في مجتمعات حكمتها أنظمة "البعث"، الأشد وحشية من جيرانها بما لا يقاس. والأكيد أن تلك المنظمات، وإن استطاعت أن تجند عدداً من الانتحاريين في أوروبا، فإنها جندت الآلاف منهم في شرق القمع والظلم والمعاناة، شرق الاحتمال "ص"، الذي يصيب العنف ساكنه عاجلاً أم آجلاً، ضحية أو جانيًا، أو عائشاً بالرعب كالأموات.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب