الثلاثاء 2017/04/18

آخر تحديث: 14:22 (بيروت)

نهاية المناورة المصرية

الثلاثاء 2017/04/18
increase حجم الخط decrease
بعد ثلاث سنوات من الحبس الاحتياطي، تم البت، أخيراً في قضية " مؤسسة بلادي"، وتبرئة المتهمين الثمانية، ومن بينهم آية حجازي، حاملة الجنسية الأميركية، وهو الأمر الذي ربطه البعض بالزيارة الأخيرة للرئيس المصري للولايات المتحدة. ومع أن أدلة الإدعاء العام في القضية كانت شديدة الهشاشة في الإساس، والحكم كان مفترضاً بالبراءة، إلا أن توقيت قرار المحكمة، بعد اللقاء الأول بين السيسي وترامب، أعاد إلى الأذهان القضايا السابقة التي استغلت فيها الأنظمة المصرية المتعاقبة مواطنيها الحاملين لجنسيات غربية، كرهائن للمساومة مع حلفائها الغربيين.

قضية "مؤسسة بلادي"، لا يبدو الحكم فيها أكثر من مجرد عربون للمحبة بين الرئيسين، دفعت ثمنه آية ومن معها بضع سنوات من أعمارهم، لكنها ليست بالضرورة تعبيراً عن تحول جدي في سياسات النظام المصري، بخصوص قضايا المعتقلين والحريات العامة، وغيرها من الملفات الداخلية التي واجهت بخصوصها انتقادات من الإدارة الأميركية السابقة. فالتحول الأوضح للنظام المصري في علاقته بالولايات المتحدة، مؤخراً، يبدو مرتبطاً بالملفات الخارجية.

فبعد الزيارة الرئاسية الأخيرة، قامت مصر بالتصويت، في مجلس الأمن، لصالح مشروع قرار المجموعة الغربية المتعلق بالهجوم الكيماوي للنظام السوري على خان شيخون، والذي عطّله الفيتو الروسي. وهو الأمر الذي يبدو غير متسق مع موقف مصر من مشروع قرار سابق في فبراير الماضي، طرحته المجموعة الغربية أيضاً، وكان متعلقاً بفرض عقوبات على مسؤولين سوريين ومؤسسات متهمة باستخدام السلاح الكيماوي في سوريا. وهو القرار الذي عطّله أيضاً الفيتو الروسي، ورفضته مصر لعدم توافر أدلة كافية لإدانة النظام السوري، بحسب كلمة ممثل مصر في مجلس الأمن حينها، وهو نفسه، وفي كلمته بعد التصويت لصالح القرار الأخير، بدا أقل تشكيكاً في مسؤولية النظام السوري عن الهجمات الكيماوية. ومع أن تصويت مصر في مجلس الأمن، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالشأن السوري، تبدوللوهلة الأولى نتاج حالة استثنائية من التخبط والتردد، إن لم يكن الفصام، فلا حاجة للتذكير بتصويت مصر في أكتوبر الماضي لقرارين متناقضين، أحدهما غربي أبطله الفيتو الروسي، والآخر روسي عارضته الدول العربية والغربية بشدة، إلا أن تدقيقاً في الملابسات الأوسع لعلاقات النظام المصري الدولية ربما يكشف منطقاً متسقاً للسياسية الخارجية المصرية وتناقضاتها.

فبعد الثلاثين من يونيو، شهدت العلاقات المصرية الأميركية فتوراً واضحاً، لم يكن محوره الوحيد موقف الإدارة الديموقراطية الأميركية من عزل الرئيس محمد مرسي وما تلاه. بل أيضاً هو شعور عميق بالغبن أضمرته النخبة المصرية الحاكمة تجاه إدارة أوباما، لموقفها من مبارك، في لحظة سقوط نظامه. فاتهامات وسائل الإعلام المصرية المتكررة للولايات المتحدة بتدبير الإنقلاب على مبارك، ودعم جماعة "الإخوان"، لم تكن مجرد دعاية موجهة للإستهلاك المحلي، بل كانت تعبيراً عن غضب حقيقي، يمكن تفهمه بسهولة، من "الخيانة" الأميركية لمبارك، حليف الولايات المتحدة على مدى أكثر من ثلاثة عقود، والذي تم التخلي عنه في بضعة أيام، وبشكل مهين جداً.

بالتوازي، شهدت العلاقات المصرية الروسية، تقدماً على أكثر من مستوى، أهمها توقيع اتفاقية مشروع الضبعة النووي، بالإضافة إلى الزيارات الرئاسية الدافئة، والموقف المصري من القضية السورية، الذي بفعله توترت العلاقات المصرية الخليجية بشدة، خصوصاً مع المملكة السعودية. لكن، ومع أن وسائل الإعلام المصرية المؤيدة للنظام، سعت خلال العامين الماضيين، إلى شخصنة العلاقة بين بوتين والسيسي، وإلى تضخيم قدرات ونفوذ "الدب الروسي" في المنطقة، ومدى عمق التحولات في تحالفات مصر في شبكة التوازنات الإقليمية، وتصوير تلك التحولات كتحدٍّ "للإمبريالية الأميركية" و"مخططاتها لإسقاط الأنظمة الوطنية العربية وجيوشها"، إلا أن واقع الأمور كان مغايراً. فالتعاون المصري الأميركي، في المجالات الأمنية والعسكرية والإقتصادية، ظل كما هو بلا تغيير، وكذا توسع النظام المصري في صفقات الأسلحة مع الحكومات الغربية، وبحماس إستثنائي. كما نالت الحكومة المصرية دعماً كاملاً من الولايات المتحدة وأوروبا في سعيها إلى تأمين قرض صندوق النقد الدولي. وفي الوقت ذاته، فإن الدفء المصري- الروسي المفترض، سرعان ما تبين فتوره. فعدا عن السترة ذات النجمة التي أهداها بوتين للسيسي، مع بعض كلمات الإطراء، وبعد تفجير حادثة شرم الشيخ الروسية، فإن الغضب الروسي من التقصير الأمني المصري، جاء ممزوجاً بتعمد إهانة النظام المصري وإذلاله، مرة تلو الأخرى، بعد وعود متكررة برفع الحظر الروسي عن السفر إلى مصر، وبعد الامتثال المصري لتوصيات وملاحظات وفود التفتيش الروسية إلى المطارات المصرية. بل حتى مشروع الضبعة النووي، سرعان ما لحق بغيره من المشاريع العملاقة، ووصل إلى طريق مسدود.

كل تلك التناقضات بين الخطاب الإعلامي والمواقف الرمزية للنظام المصري، وبين الواقع العملي لعلاقاته الخارجية، لا ينبغي أن تقودنا إلى افتراض أن الأمر لم يكن سوى حملة إعلانية للإستهلاك المحلي. فالخارجية المصرية بالفعل، نفذت مناورة طويلة، محسوبة، تضمنت مخاطرات محدودة، بخليط من دوافع براغماتية وإيديولوجية، بل وشخصية جداً. فالنظام المصري، الذي استغل تلويحه بالتقارب مع الروس، كورقة للتفاوض مع الولايات المتحدة وحلفائها، وتخفيف الضغوط عليه في ملفات حقوق الإنسان والديموقراطية، حاول استغلال مناسبات تصويته ذي التأثير المتواضع في الأمم المتحدة، ومواقفه الرمزية من الحرب السورية، كورقة للتفاوض مع الروس للحصول على القدر الممكن من المكاسب من الطرفين. ومع إدراك النخبة المصرية الحاكمة، لعمق إعتماد الدولة المصرية على الدعم الأميركي والغربي، بفعل تراكمات بنيوية طويلة، وهشاشة القدرات الروسية إجمالاً، مع التشكيك الروسي الدائم في النوايا المصرية لأسباب تاريخية، فإن النظام المصري كان معنياً بإيصال رسالة إلى حلفائه الغربيين بأنه، وأن لم يكن قادراً تماماً على التخلي عنهم، فإنه على الأقل قادر على المناورة، والتلاعب بقدراته، رغم محدوديتها. والأهم، أن ولاءه يجب ألا يتم التعامل معه بوصفه من المُسلّمات.

وتمثلت المخاطرات الأكبر لتلك المناورة، في توتر العلاقات مع أنظمة الخليج، الداعم المالي الرئيسي لمصر في ظل أزمتها الاقتصادية الخانقة. إلا أن رهان النظام المصري على أن المحور الخليجي، حتى مع توتر العلاقات، لا يملك رفاهية خسارة مصر كلياً، ثبتت رجاحته. فالجبهات المفتوحة في اليمن وسوريا وغيرها، وتضخم النفوذ الإيراني المتسارع، مع ضبابية الموقف الأميركي، كلها عوامل أرغمت دول الخليج على التسامح مع نزق السياسات المصرية الخارجية في النهاية.

وجاء إنتخاب ترامب، كلحظة مناسبة لاختتام المناورة المصرية الطويلة، التي أصبح الاستمرار فيها عبئاً بلا مكاسب متوقعة. فحتى قبل تنصيب ترامب، كادت مصر أن تصوّت ضد قرار الاستيطان الإسرائيلي، الذي قدمته بنفسها لمجلس الأمن، بل وقام ممثلها في المجلس بالهجوم على الدول التي صوتت لصالح مشروع القرار الذي قدمه بنفسه، وذلك كعربون محبة للرئيس الأميركي الجديد. خفف النظام المصري أيضاً، حدة التوتر مع السعودية في القمة العربية الأخيرة، وبدأ موقف الخارجية المصرية من الحرب السورية وخطابها بخصوصه، في التحول ببطء.

يبدو أن نظام الثلاثين من يونيو، نجح بالفعل في الحصول على القدر الممكن من المكاسب من الأطراف كافة، أو على الأقل خرج بالحد الأدني من الخسائر في ظل الوضع المضطرب في المنطقة. لكن الثمن كان التأكيد، بلا خجل، أن النظام الحاكم لا يتورع عن رهن أي شيء، من مواطنيه، إلي مواقفه الخارجية، ومصائر شعوب بأكملها، في سبيل مناوراته، ومقامراته للاستمرار. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها