الأربعاء 2017/04/19

آخر تحديث: 08:29 (بيروت)

مارين لوبان: الصورة المتغيرة

الأربعاء 2017/04/19
مارين لوبان: الصورة المتغيرة
مارين لوبان تقترب من الإليزيه بسياسة "التخلص من الشيطنة" (غيتي)
increase حجم الخط decrease
رغم كل الجهود التي بذلتها زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبان لتقديم نفسها بصورة تجعلها أكثر قبولاً لدى الفرنسيين، إلا أنه لا يزال مستحيلاً مقاربة تجربتها على رأس حزب الجبهة الوطنية بمعزل عن تجربة مؤسس الحزب ورمزه التاريخي : والدها جان ماري لوبان. يقال الكثير عن أوجه الاختلاف بين مارين لوبان ووالدها وكذلك عن التحولات التي عرفتها الجبهة الوطنية بين الجيل الأول والثاني لآل لوبان، كل هذه المقارنات يمكن اختزالها بفارق واحد؛ مارين لوبان تسعى جدياً للوصول إلى السلطة بخلاف والدها الذي كان اقصى طموحه من العمل السياسي التحول إلى بيضة القبان من دون أن يكون شريكاً في آلية القرار. لم يكن جان ماري لوبان غبياً حين كان يطلق تصريحات معادية للسامية، لم تكن هذه التصريحات تعكس قناعاته العنصرية بقدر ما كان الهدف منها وضع العصي في "دواليبه" حتى لا يؤهله الفرنسيون لتسلم دفة الحكم يوما ما.

وصول جان ماري لوبان إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية العام 2002، مثّل ذروة مسيرته السياسية. بيد أن غليان الشارع الفرنسي يومها، والاحتجاجات الشعبية التي رافقت النتيجة، عكست محدودية تقبل حزبه في الوسط السياسي والشعبي. حينها، أدركت مارين لوبان أن منهجية عمل والدها لن تؤتي الثمار المطلوبة، فبدأت الإعداد تدريجياً للتحولات التي تعرفها "الجبهة الوطنية" اليوم.

خطوتها الأولى كانت الاتصال بخصوم والدها، أنصار برونو ميغريه، وإعادتهم إلى الحزب بعدما انشقوا عنه العام 1999، حتى أنها تبنت استراتيجيتهم الهادفة إلى "التخلص من شيطنة الجبهة الوطنية"، والتي بسبب نفور جان ماري لوبان منها، حصل الانشقاق الشهير. كذلك عمدت إلى استمالة قيادات جديدة من خارج الأطر التقليدية، أبرزهم ذراعها اليمنى فلوريان فيليبوه، ذو الخلفية اليسارية – السيادية. أحدث انضمام فيليبوه للجبهة الوطنية، نقلة في طروحاتها السياسية والاقتصادية، خصوصاً بعد تسلم مارين لوبن رئاسة الحزب العام 2011. ففي مقابل خطاب جان ماري لوبان، الليبرالي المناهض للشيوعية، انتهجت مارين لوبان، وبتأثير مباشر من فيليبوه، خطاباً معادياً للعولمة وللشراكة الأوروبية. اقتربت في طروحاتها المستجدة من خطاب اليسار، فباتت تدافع عن حقوق الطبقات المتوسطة والفقيرة إلى جانب حماية الشركات الفرنسية من المنافسة الخارجية. كما تعهدت بأن تعيد لفرنسا سيادتها الاقتصادية "المسلوبة" من الاتحاد الأوروبي. هذا الخطاب شكل رافعة شعبية لها لأسباب عديدة. أولاً باتت تحاكي الهموم الحياتية للفرنسيين، مع توالي الأزمات الاقتصادية الأوروبية التي إرتدّت سلباً على واقعهم المعيشي. السبب الثاني هو تراجع الأحزاب اليسارية التقليدية (الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي) في الأوساط العمالية والنقابية، ما سمح لليمين المتطرف بملء فراغ يسعى من خلاله إلى كسب ناخبين جدد من أوساط يسارية. ففي أكثر من مناسبة، وضع حزب الجبهة الوطنية على منشوراته، صورة الاشتراكي ليون بلوم، أحد خصوم اليمين المتطرف وزعيم الجبهة الشعبية الفرنسية التي شكل وصولها للحكم في الثلاثينيات محطة فارقة في الحياة السياسية الفرنسية، لا سيما لناحية المكاسب الاجتماعية للعمال. هذه الحركة الدعائية تندرج ضمن سياسة "التخلص من الشيطنة" لتسويق برنامج اليمين المتطرف في أوساط غير تقليدية، بالتوازي مع محاولة تغيير الصورة التي ترسخت لدى الفرنسيين بأن الجبهة الوطنية تعادي تاريخ فرنسا ورموزها. أما السبب الأخير الذي أعطى مارين لوبان هذا الزخم الشعبي، فهو استياء الفرنسيين من الأداء الحكومي للأحزاب السياسية التقليدية، ما يدفعهم اليوم إلى التعلق بوجوه جديدة لم تتولّ الحكم سابقاً.

اللافت في خطاب الجبهة الوطنية الاقتصادي، ليس يساريته، بقدر ما أن مارين لوبان أضفت لمستها الخاصة عليه. فحين تتوجه غلى العمال مدافعةً عن حقوقهم، توحي في خطابها بأن الخطر الأبرز الذي يتهددهم هو فتح الحدود والسماح لأعداد كبيرة من الأجانب بالاستقرار في فرنسا ليشكلوا يداً عاملة منافسة، وكأن رهاب الأجانب هو خيارٌ اقتصادي، وليس عنصريةً كما كان عليه الأمر في عهد والدها، ما يسمح لها بتسويق طروحات حزبها المتطرفة بصورة غير مستفزة. كما أن المزج بين الخطاب اليساري ورُهاب الأجانب، وتقديمه كتوجه اقتصادي، يعطي انطباعاً بأن مارين لوبان صاحبة رؤية اقتصادية جديدة، تستحق التطبيق في نظر أعداد غير قليلة من الفرنسيين خصوصاً الرازحين تحت البطالة.

عاملٌ آخر ساهم في إضفاء شرعية على خياراتها، يتلخص في أن ما كان حزبها يطرحه على مرّ العقود الماضية، من الهجرة إلى الشراكة الأوروبية، تحول اليوم إلى أزمات لم يعد في الإمكان غض النظر عنها، وبات لزاماً على أي مرشح أن يتناولها في برنامجه ويقدم لها الحلول. بغض النظر عما إذا كان منافسو مارين لوبان، يطرحون حلولاً متشددة أو معتدلة، استفادت زعيمة اليمين المتطرف من الواقع الحالي لتضفي شرعيةً تاريخية على برنامجها عبر الغمز من قناة التنبؤ بهذه المشاكل قبل أربعين عاماً.

من جهة أخرى، فإن أحد الأسباب التي ساهمت في أن تصبح الجبهة الوطنية أكثر قبولاً لدى الناخب الفرنسي، هو إقرار لوبان بعلمانية فرنسا. فمن الناحية النظرية، تتمسك أحزاب اليمين المتطرف عادةً بالإرث الثقافي لبلدانها، لذا لم يكن مستغرباً أن ينادي جان ماري لوبان بالحفاظ على الجذور الكاثوليكية لفرنسا. لكن مارين لوبان أقرت بعلمانية فرنسا وأكدت تمسكها بقانون 1905 الذي ينص على فصل الكنيسة عن الدولة. هذه الخطوة ليست مجرد رسالة مفادها أن الجبهة الوطنية تتشارك الثوابت نفسها مع باقي الأحزاب فحسب، بل هي أيضاً وسيلة مستحدثة بذكاء لتسويق رؤيتها الاجتماعية. فمن خلال إعلان انتمائها للمبادئ العلمانية وربطها بشرعية برنامجها التاريخية، أصبحت في موقع المزايد على الأحزاب التقليدية في الدفاع عن قيم العلمانية الفرنسية إزاء أمواج المهاجرين الذي يمثلون في نظرها تهديداً ثقافياً لفرنسا، لا سيما المسلمون منهم. هي لا تزال تنبذ التنوع الثقافي والعرقي لفرنسا، لكن بصورة مستحدثة تحاكي قناعات الفرنسيين الحالية.

إلا أن التحول الأبرز يبقى في الصورة الإعلامية التي تسعى مارين لوبان أن تظهر هي وحزبها عليها، وهي جوهر سياسة "التخلص من الشيطنة". ابتعدت عن العبارات المستفزة التي تذكّر بعهد والدها، كالعرق الفرنسي أو إنكار المحرقة اليهودية، في خطاب تتوجه به الى عموم الفرنسيين. على سبيل المثال، بدلاً من التصويب على المهاجرين والأجانب بصورة مباشرة والحديث عن "استحواذهم بلا وجه حق" على المساعدات الاجتماعية، ترفع لوبان شعار الأولوية الوطنية (La priorité nationale) لتوحي بأنها لا تعادي الأجانب، لكن الأولوية يجب أن تعطى للمواطنين الفرنسيين للاستفادة من فرص العمل والتقديمات الاجتماعية. غير أنه ليس صعباً التنبه إلى أن خطابها هذا يتبدل وفق هوية الجمهور المستمع اليها. مثلاً حين تأتي على ذكر الأولوية الوطنية في اللقاءات العامة، تعتبر مارين لوبان أنها تعني كل شخص يحمل بطاقة هوية فرنسية، أياً تكن أصوله أو ديانته، كما لا يهم إن كان مجنّساً أو فرنسياً بالولادة. وفي المقابل، تقول أمام محازبيها أن بطاقة الهوية الفرنسية ليست كافية ليكون الفرد فرنسياً، فالفرنسة في نظرها عبارة عن مسار يدوم سنوات لاستيفاء الشروط الثقافية وحتى العرقية، وذلك في تفرقة واضحة تحيل فيها المجنّسين إلى مواطنين من الدرجة الثانية.

اليوم، ومع سياسة "التخلص من الشيطنة"، باتت القاعدة الشعبية للجبهة الوطنية تتركز بشكل رئيسي في نطاقين جغرافيين: الجنوب وهو معقلها التاريخي، وفي الشمال الغربي معقل الحزب المستجد الذي يعود الفضل في تكوينه الى النهج "اليساري".

وإزاء هذا الواقع، تُعير مارين لوبان اهتماماً بالغاً لتحركاتها ومواقفها السياسية، بغية الحفاظ على هاتين الكتلتين المتناقضتين. لعل المثل الأبرز هو امتناعها عن المشاركة في التظاهرات المناهضة لتشريع زواج الممثلين، على الرغم من إعلان معارضة حزبها لهذا التشريع. من ناحية، تحافظ على قاعدتها التقليدية عبر معارضة المشروع، ومن ناحية أخرى وعلى اعتبار أن طروحاتها الاقتصادية تستهوي مناصرين جدد من دون أن يكونوا بالضرورة محافظين من الناحية الاجتماعية، تفادت المشاركة في هذه المظاهرة التي ركز عليها الإعلام، حتى لا تكون في صدارة المشهد الإعلامي، فلا تستفز بذلك أنصارها الجدد أو المحتملين.

بالتوازي، وفي سعيها إلى كسب تأييد أوسع شريحة ممكنة من الفرنسيين، تتفادى مارين لوبان ان يخرج خطاب حزبها العنصري الى العلن أمام وسائل الإعلام، حتى لا ينفر منها الفرنسيون من غير أنصارها التقليديين. إلا أن الواقع مختلف كلياً. فالعديد من التقارير التي صوّرت بكاميرات خفية في أروقة ومقرات الجبهة الوطنية، فضحت زيف سياسة "التخلص من الشيطنة"، إذ يستطيع محازبوها أن يدلوا بدلوهم بكل أريحية عنصرية في الاجتماعات البعيدة من التغطية الإعلامية، ما يسمح لها بالحفاظ بالتوازي على قاعدتها التقليدية. لكن، حذار أن يخرج الكلام إلى وسائل الإعلام أو مواقع التواصل الاجتماعي. فكل من يضبط "متلبساً" بكلمة أو بصورة تؤثر سلباً في الصورة الجديدة للجبهة الوطنية، يطرد فوراً من الحزب، ويكون طرده مصحوباً بحملة إعلامية للتأكيد على تغيّر الحزب. لهذا الغرض، لا يسمح لأي كان أن يظهر في وسائل الإعلام ليتحدث بإسم الجبهة الوطنية، كي لا ينزلق بكلامه، أو يسيء استخدام عباراته. تدريجياً، باتت هذه المهمة منوطة بفلوريان فيليبوه، الذي يحتكر الإطلالات التلفزيونية للجبهة الوطنية، حتى بات الشخصية السياسية الفرنسية الأكثر ظهوراً في الشاشة.

في العام 2002، رفض جاك شيراك المناظرة التلفزيونية المعتادة مع جان ماري لوبان، عقب تأهل الأخير المفاجئ إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية. بعد 15 عاماً، تبدلت المعطيات، وباتت مارين لوبان مرشحة جدية لأن تحجز أحد مقاعد الدور الثاني، أياً يكن منافسها، وستتم المناظرة حكماً، ما يدل على أن ازدراء اليمين المتطرف وتجاهله بات من وسائل الماضي، إذ لم يعد هذا الحزب منبوذاً في الشارع الفرنسي كما كانت حاله في السابق.

وفي سعيها للوصول إلى الإليزيه، تحمل مارين لوبان جملةً من التناقضات. هي تسعى للاندماج في نظام تنبذه، تريد الوصول إلى السلطة بأفكارها، لكن بكلمات الآخرين، تريد الحفاظ على كتلتين متناقضتين من المحازبين والمناصرين. حتى اليوم لم تظهر حدود هذه الاستراتيجية. وعلى الرغم من التصدعات داخل الجبهة، سواء مع ابنة شقيقتها ماريون مارشال لوبان التي تمثل الجناح اليميني المحافظ المعادي لفيليبوه، أو حتى مع والدها الذي طردته من الحزب بعد تفوهه بعبارات معادية للسامية، يبدو أن مارين لوبان تسير حتى اللحظة بخطى ثابتة نحو السلطة.

باختصار: من الخطأ القول أن حزب الجبهة الوطنية ما زال على حاله، منذ تسلم مارين لوبان رئاسته. وفي المقابل من الخطأ الاعتبار بأن حزب جان ماري لوبان قد تغيّر ونبذ التطرف والعنصرية ليصبح على الموجة السياسية نفسها مع باقي الأحزاب الفرنسية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها