الثلاثاء 2017/03/07

آخر تحديث: 07:50 (بيروت)

بانكسي واستثمار البشاعة

الثلاثاء 2017/03/07
بانكسي واستثمار البشاعة
increase حجم الخط decrease
في تصريح لفنان الغرافيتي البريطاني، بانكسي، بخصوص فندقه الجديد الذي افتتحه، قبل أيام، في مدينة بيت لحم على بعد خمسة أمتار من الجدار العازل الإسرائيلي، نفى أن تؤثر المخاوف الأمنية في الجدوى الإقتصادية للمشروع، مشيراً بسخرية، إلى الإقبال الواسع على مشروعه السابق، "حديقة الذهول"، الذي اجتذب الألوف من الجماهير إلى بلدة إنجليزية ساحلية متواضعة: "محاسبي كان قلقاً من أن البعض سيكون مرتعباً جداً من السفر إلى الضفة الغربية، لكني ذكرته بأنه في عرضي الفني السابق، قضى الناس يوماً بأكمله في بلدة ويستن سوبرمير".

يتعدى الرابط بين المشروعين، مجرد التدليل على الجدوى الإقتصادية لعلامة بانكسي الفنية. فمشروع "حديقة الذهول" اعتمد، كفندقه الجديد، على استحضار المكروه، والتشبع به، واستهلاكه بشكل معكوس. فحديقة الذهول لم تكن سوى إعادة إنتاج متعمد ومشوّه لـ"ديزني لاند"، والتي للأسف لم تقدم لنا جديداً، سوى تكثيف لتيمات بانكسي المعتادة، أحادية الجانب والفقيرة في خيالها، المعادية للاستهلاك. لكن، وخلافاً لمشروعه السابق، الذي لم يتعدّ مجرد المحاكاة الناقمة لمدينة ديزني، والاستحضار المؤقت لنموذج مشوه منها، فإن فندق "ذا وولد أوف"، لا يتمثل السور وكاميرات المراقبة الإسرائيلية كمحاكاة مؤقتة، بل يواجهها عياناً، ويكتسب حضوراً إسمنتياً دائماً في مواجهتها. هكذا، فإن معضلة فندق بانكسي، ليست في مجرد الاستهلاك المعكوس، أي استبدال استهلاك المنتج الاستهلاكي باستهلاك المنتج المعادي للاستهلاك، بل في مغادرته عالم "الجمالي" - أي التمثل أو حتى المحاكاة كأدنى صور الفني- إلى السياحي. فنزلاء الفندق لهم أن يعاينوا مباشرة، الجدار العازل وكاميراته، من دون وسائط، أو ترميز أو كشف لما وراء المرئي وعلاقاته.

في سياق ترويجه للفندق، يقول بانكسي أن "الفندق يطل على أسوأ منظر في العالم"، في مبالغة تبدو معنية بتكثيف القبح، بوصفه العامل الأكثر جذباً في مشروع الفندق، الذي لا تتعدى فترة دخول الشمس إلى غرفه العشر، أكثر من 25 دقيقة، كما أكدت إدارته بكل فخر. لكن، ومع أن اللعب على التناقضات، أي معاينة القبيح بعين الجمالي، ومواجهة القمعي بوصفه فعلاً تحريرياً، هو إحدى أدوات الفن لكشف العالم ونقده، فإن فندق الجدار العازل، ربما يبدو على العكس من ذلك، تطبيعاً مع البشاعة، واستثماراً فيها.

فمدير الفندق، وسام سلسع، يصرح لوسائل الإعلام: "أود أن أدعو الجميع لزيارتنا هنا، وأن أدعو المدنيين الإسرائيليين ليأتوا لزيارتنا هنا". لكن لماذا يحتاج الإسرائيليون أن يروا الجدار؟ الا يرونه بالفعل من الجهة الأخرى؟ فهل زاوية الرؤية من بيت لحم تكشف بُعداً مخفياً لوظيفته، أم أنها تؤكدها؟ ما غاب عن بانكسي، وسلسع، أو تجاهله كلاهما عمداً، هو أن وظيفة السور المادية والرمزية، لا تتضمن منعاً للإسرائيليين من عبوره أو معاينته من الجانبين، والتوسع في ما وراءه، بل منع المحاصَرين خلفه من تخطيه، ورؤيته من الجهة الأخرى. سيستطيع الإسرائيليون والسياح الذين ستسمح لهم إسرائيل بالدخول إلى الضفة، بمعاينة السور من الجانبين إذا أرادوا، مع امتياز التقاط "السيلفي" مع أعمال بانكسي الأصلية، والنوم في غرفة فندقية تزينها لوحاته التي تباع بما يتخطى النصف مليون دولار للواحدة منها، وربما أيضاً هو الإشباع الأخلاقي للمشاركين في مقاومة البشاعة بالنوم في أحضانها والحملقة من قرب في مناظرها، بينما يبقى الفلسطينيون، وحدهم، غير قادرين على معاينة السور سوى من جانب واحد، إن أمكنهم ذلك.

سينعش الفندق حركة السياحة المتراجعة في البلدة، ويخلق بعض الوظائف لسكانها، كما تعدنا التقارير الصحافية عن المشروع. وسيُلفت الإنتباه مرة أخرى إلى قضايا الفلسطينيين ومعاناتهم، بلا شك، بفضل التغطية الإعلامية. لكن الأهم أنه سيثبت، بما لا يدع مجالاً للشك، أن بانكسي، عن استحقاق، له حق السبق، في استثمار البشاعة، وجعلها موضوعاً للإثارة والجاذبية، حتى ولو أدعى غيره ذلك، أو نافسه في ذلك ترامب نفسه. فكما يقول في بيانه الذي صاحب الإعلان عن افتتاح الفندق: "الأسوار أصبحت موضوعاً مثيراً هذه الأيام. لكنني كنت مهتماً بها، قبل أن يجعلها ترامب أمراً جذاباً".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها