السبت 2017/03/04

آخر تحديث: 16:25 (بيروت)

أسبوع خداع الذات

السبت 2017/03/04
increase حجم الخط decrease
بينما كان الدولار الأميركي يحقق قفزة مفاجئة في السوق المصرية طوال نهاية الأسبوع المنقضي، كان للوكالة الإخبارية الرسمية رأي آخر. كان الدولار يرتفع في السوق وشاشات البنوك، وينخفض في عناوين النشرة اليومية. نقول "العناوين"، ولا نقول الأخبار، لأن متن الخبر – المصدوم من ارتفاع العملة الأجنبية مجدداً- كان يتناقض بصفة ملتوية مع العنوان. كان المتن يقول إن سعر الدولار انخفض "في المساء"، قياساً إلى تعاملات الصباح، من دون أن يتطرق إلى كون تعاملات الموعدَين -المساء والصباح- مرتفعَين بالفعل عن تعاملات الأمس، وأن تعاملات الأمس مرتفعة عن أمس الأول. كانت الوكالة الرسمية قد دأبت على إرسال نشرتها "الدولارية" إلى الصحف، منذ توقف الاندفاعة الصاعقة للدولار بعد تعويم الجنيه المصري. آنذاك، بدا أن الدولار ينخفض قليلاً، بالتدريج، فظلت العناوين الرسمية تبشر كل صباح بانخفاض جديد، حتى عاد الدولار إلى الارتفاع مجدداً، ولم يكن ممكناً التوقف عن إصدار النشرة، فجرى التلاعب في متن الخبر مع إبقاء العناوين على حالها، لكن ذلك كان مجرد حالة واحدة من أسبوع كامل طغى عليه "خداع الذات".

خلال الأسبوع نفسه، احتفت الوكالة، بتعبير جو كايسر، المدير التنفيذي لشركة "سيمنس" الألمانية"، حين وصف الرئيس السيسي بأنه "الرائد الرائع والمفاوض الذي لم يرَ (كايسر) في حياته في مثل قوته". جاء تصريح كايسر أثناء إطلاق المرحلة الأولى من مشروعات طاقة كهربية تنفذها في مصر، الشركةُ الألمانية العملاقة، والتي رغم "عملقتها" لم تحصل في تاريخها على عقد يماثل حجم العقد المصري البالغ ثمانية مليارات يورو. وهو العقد الذي أجبر حجمه الهائل، المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، أن تأتي بنفسها إلى القاهرة، متراجعةً عن صرامتها السابقة ضد "الحُكم الجديد" في مصر. حضرت ميركل، وزارت الأهرامات، وأجرت المشاورات حول الاقتصاد والمفاوضات حول اللاجئين، وقدمت دعماً بقيمة 500 مليون يورو، وهو مقابل بسيط أمام العقد المصري الخرافي لـ"سيمنز". علماً أن العقد تم توقيعه منذ حزيران/يونيه 2015، أي قبل أقل من عامين من إعلان الرئيس أن مصر بلد "فقير أوي"، ومن المعروف أن للعقود التجارية السخية أثر السحر على مواقف أوروبا "الديموقراطية"، لكن وكالة الأنباء المصرية الرسمية فضلت التركيز على "اعتراف" الألمان بروعة وريادة السيد الرئيس.

غير أن خداع الذات -خلال الأسبوع نفسه- قد يتخذ أيضاً شكلاً شعبياً. فبينما نزح أقباط العريش، هاربين إلى الإسماعيلية، تعامى كثيرون بسوء نية أو سذاجة، عن بُعد "الهوية"، مصرّين على أن الخطر في سيناء "يقع على المصريين جميعاً لا على المسيحيين وحدهم"، متناسين الفارق الواضح بين الاستهداف العام - مثل التفجير العشوائي أو تكفير المجتمع بأكمله أو حتى استهداف ممارسات بعينها "كالتعاون مع الحكومة" أو ممارسة مهنة معينة - وبين تهديد الهوية، أي استهداف أتباع دين أو طائفة بعينها لمجرد أنهم أتباع ذلك الدين أو أبناء تلك الطائفة. في الحالة الأولى، قد يصيبك الخطر، أو لا يصيبك، بحكم الصدفة والحظ التعس لا أكثر. وقد تستبعد الخطر باستبعاد أسبابه، أو ترحب به متمسكاً بنمط حياتك وقناعاتك. أما في استهداف الهوية فأنت تبقى مهدداً، مهما فعلت أو لم تفعل. ولا دليل على هذا أوضح من اضطرار الصحافة إلى إخفاء هويات النازحين، حتى بعدما تركوا بيوتهم وفروا إلى مدينة أخرى. إنهم مهددون بهويتهم، أينما حلوا وحيثما سكنوا، وهو ما لا ينطبق بالتأكيد "على المصريين جميعاً" كما يزعم خادعو أنفسهم.

وفي التعريف أن خداع النفس هو أن يتوهم المرء صورة لنفسه أو لظروفه تخالف الواقع وتوافق رغباته. وكانت رغبة البنك المركزي المصري ألا يقدم على التعويم قبل أن يتخطى احتياطه النقدي الـ25 مليار دولار. غير أن الاحتياطي لم يكن قد تجاوز الـ19 مليار دولار حين تم التعويم في الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر الماضي. وهذا الأسبوع، أعلن البنك أخيراً، وبفخر، أن الاحتياطي قد تجاوز مبلغ 26 مليار دولار. لكن ما يعرفه الجميع أن الارتفاع الكبير في هذه الشهور القليلة، هو ارتفاع الديون التي "منحها" لمصر صندوق النقد الدولي، وعائد سندات الدين مرتفعة الفائدة.. وأنه ليس أسوأ خداعاً للنفس، من رجل يظن أنه قد صار غنياً، لأن الجميع أقرضوه.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب