يوم الخميس الماضي، انقسمت شاشات الأخبار البريطانية نصفين، نصف لمتابعة تطورات هجوم ويسمنيستر الإرهابي، والآخر لتغطية جنازة مارتن ماكغينيس، نائب رئيس وزراء إيرلندا الشمالية السابق. لم تكن تلك الصدفة وحدها سبباً لأن تقارن وسائل الإعلام بين خالد مسعود منفذ هجوم ويستمنيستر، وبين السياسي الإيرلندي الشمالي. فماكغينيس وصفه توني بلير، في كلمة تأبينه، بأنه شريك للسلام، مشيداً بالدور الذي لعبه في مفاوضات إتفاقية "الجمعة العظيمة"، من أجل إنهاء عقود من العنف في إيرلندا الشمالية. وكانت التقارير الإخبارية، في الوقت نفسه، تسرد تاريخ ماكغينيس في القيادة الميدانية لعمليات الجيش الجمهوري الإيرلندي في السبعينات، مصحوباً بسلسلة طويلة من ضحايا عملياته، والتي تورط في بعضها ماكغينيس بشكل مباشر وشخصي جداً. وجاء عنوان "ديلي ميل": "ماكغينيس مجرد قاتل وبلطجي"، مشفوعاً بتعليقات أهالي ضحايا عمليات الجيش الجمهوري الإيرلندي: "لن نغفر"، "نتمنى أن يحترق ماكغينيس في أسوأ ركن في الجحيم، كما يستحق"، فيما بثت "بي بي سي" تقريراً بعنوان "ماكغينيس: من الإرهاب إلي السياسة". لكن جيري آدامز، زعيم حزب "شين فين"، رفض وصف رفيقه بالإرهاب: "لم يكن إرهابياً، بل مناضلاً من أجل الحرية".
الصحافة المكتوبة، من جهتها، لم تتحدث عن الماضي بل المستقبل، "بعد كل ما نعرفه عن الإرهاب، كيف لنا أن نغامر بعملية السلام في إيرلندا الشمالية؟"، لتربط بين عملية مسعود في وسط لندن، وبين القلق المبرر من تبعات خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي على تماسك عملية السلام في إيرلندا الشمالية. تعود الجرائد بنا إلى الماضي قليلاً، لتذكّر قراءها بأن ضحايا عمليات الجيش الإيرلندي في السبعينات من القرن الماضي، كانت قد تخطت المئة قتيل في العام الواحد، بينما بلغ عدد القتلى 353 في العام 1972، وتراجع إلى ما بين 50 و100 ضحية في العام، في الثمانينات ومطلع التسعينات. تلمح الصحافة اليسارية إلى أن الخطر الحقيقي لا يأتي من عمليات "الجهاد الإسلامي"، "النادرة جدا"، بل من التكييف السياسي لعلاقة إيرلندا الشمالية والجمهورية الإيرلندية، والحدود بينهما بعد الخروج من الإتحاد الأوروبي.
لكن رحلة ماكغينيس من الإرهاب/النضال إلى السياسة ومفاوضات السلام، وتقاطعاتها غير المحتملة مع مسارات حياة أدريان ألمز، وتاريخه الجنائي المتواضع الذي قاد عرضاً إلى تحوله إلى خالد مسعود، وانتهي به في عمليته المنفردة في وستمنستر، تنحو جريدة "غارديان" إلى عقد مقارنة أخرى بينهما، وإن كانت غير مباشرة هذه المرة. تتساءل الجريدة: كيف لنا أن نميز بين الإرهاب المدفوع إيديولوجياً وبين أعمال العنف التي يرتكبها أفراد "سيكوباثيين"(مختلّين). وفي سبيل الإجابة، تقارن بين عمليات الجيش الإيرلندي ومبرراتها الإيديولوجية، وخطابها السياسي، وقواعدها التنظيمية والأخلاقية، وبين سلسلة طويلة من الهجمات التي ارتكبها مؤخراً أفراد يعانون اضطرابات نفسية، بدوافع تراوحت بين"كراهية السود"، و"من أجل سوريا"، أو "تفوق الجنس الأبيض".
لا تمنحنا "الغارديان" إجابة شافية على سؤالها، وإن جزمت بأن عملية وستمنستر، وإن كانت بدائية أدواتها تجعل تفادي وقوع ما يشبهها في المستقبل أمراً شديد الصعوبة، إلا أنها تثبت تراجع إمكانات التنظيمات الجهادية بشكل كبير. في الوقت ذاته، وبينما تعلن الشرطة البريطانية أن دوافع مسعود "ربما ستدفن معه"، فإن السؤال عن الدوافع سيظل بلا إجابة في العملية الأخيرة، مثل عدد لا بأس به من الهجمات.
ربما ليس هناك أي وجه للمقارنة بين مسعود وماكغينيس، غير أن دوافع الأول تظل غير مفهومة، فيما يظل الموقف من الثاني محلاً للخلاف. فهل كان مسعود مجرد مختلّ آخر وجد ضالته في إيديولوجيا الجهاد؟ أم أن الإيديولوجيا هي جوهر العنف، لا الإختلال الفردي؟ أما عن ماكغينيس: فهل كان مجرماً نجا من العقاب فقط لتعذر إثبات تُهمه قضائياً؟ أم كان صانعاً للسلام؟ هل كان إرهابياً أم كان مناضلاً في سبيل التحرر الوطني؟
لكن، وبقدر الإنقسام حول سيرة ماكغينيس، وحدة ردود الأفعال المنقسمة أيضاً حول عملية مسعود، بين إدانة لجموع المسلمين في بريطانيا وتعميمها على عموم المهاجرين، وبين شجب لمحاولات استغلال الهجوم لبث الكراهية.. فإن صور تأبين ماكغينيس، جنباً إلى جنب مع صور هجوم وستمنستر الدموي، تذكرنا، عبر دروس الماضي القريب، بأن التعايش ممكن وأبقى، وأن الكراهية والعنف وإن صعب محوهما بالكامل، إلا أن انتصاراتها عابرة ومؤقتة جداً.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها