السبت 2017/03/25

آخر تحديث: 16:42 (بيروت)

إسماعيل ياسين في المترو

السبت 2017/03/25
increase حجم الخط decrease
بعد جدال حول "معنى السعادة"، يعرض المليونير الشاب رهاناً مغرياً على ملاحظ العمال الفقير أفلاطون (إسماعيل ياسين): سوف يمنحه 6 آلاف جنيه مصري شهرياً، أو 200 جنيه يومياً، وهو مبلغ أسطوري بمعايير خمسينيات القرن العشرين، شرط أن يتمكن الفقير من إنفاقها كلها بحيث لا يبقى منها قرش واحد.. لا يسمح له بأن يدخر المال أو يهبه، ولا أن يحوله إلى عقارات، أطيان، سيارات، أو أي نوع من أنواع الممتلكات.. لا بد أن ينفق الأموال فحسب، يستمتع بها من دون حساب، وليرَى حينئذ إن كانت "السعادة في المال" حقاً كما يعتقد ملاحظ العمال البسيط.

في الكوميديا التي كتبها بديع خيري، تحت عنوان "الدنيا لما تضحك"، وقدمها أولاً نجيب الريحاني في المسرح، قبل أن يعيد تقديمها إسماعيل ياسين في السينما العام 1953، يحاول "أفلاطون" الفقير إنفاق الأموال بكل السبل، لأنه إذا عجز عن ذلك سيخسر الرهان ويتوقف المليونير عن منحه المال. ولا يعاني أفلاطون صعوبة إنفاق المبلغ "الطائل" فحسب، بل "يعانده الحظ" فيربح جولات القمار ورهان الخيل وكل ما يخسر فيه الناس أموالهم عادة. يخسر أفلاطون الرهان في النهاية، لا لصعوبته فحسب، بل لأسباب "أخلاقية" أخرى آمن بها صناع سينما الأبيض والأسود، حاولت أن تنتصر للحب والكفاح والبساطة على حساب المال والسلطة والفخامة.

لو كان أفلاطون الفقير يعيش في قاهرة القرن الحادي والعشرين، لربما فكّر في الوسيلة الوحيدة التي كانت ستكفل له إنفاق النقود-أو ما يتبقى منها، من دون أن يشتري شيئاً، ألا وهي "الحَفر". ربما كان استلهم تجربة حفر قناة السويس الجديدة التي أنفقت مصر في حفرها ثمانية مليارات دولار، أي أكثر بكثير مما يمتلكه أي مليونير في أي فيلم. لم تكن مليارات مصر الثمانية تحت طائلة أي اشتراط، ومن ثم كان يمكن أن تحتفظ بقيمتها لو استخدمت في شراء أي شيء: ذهب، طاقة، بضائع، جُزر.. لكن، لا يمكن لهذا المبلغ الهائل أن يفنى إلا بوسيلة وحيدة، وهي الحَفْر، فالناتج الوحيد عن تلك العملية هو كميات لا نهائية من التراب، لا يمكن بيعها (وإن اقترح بعض المتفائلين ذلك)، ولا إعادة استخدامها.

هكذا، تبخرت المليارات الثمانية. ولأن شيئاً لا يذهب إلى العدم، ولكل فعل، ردّ فعل مساو في القوة، مضاد في الاتجاه، فكان رد الفعل هو انهيار قيمة الجنيه المصري أمام العملات الأجنبية بأكثر من 100% من قيمته، بسبب سحب العملة الصعبة من السوق لدفع مستحقات الشركات الأجنبية التي نفذت "الحَفر".

يقال إن الديموقراطية عملية "بطيئة، مملة، ومعيقة". ذلك أن توازن السلطات، والرقابة التي يمارسها بعضها على بعض في العالم الديموقراطي، فضلاً عن صراعات الحكومات ومعارضاتها، بما فيها من حق أو ترصّد.. كل ذلك يقيّد سرعة "القرارات"، خصوصاً "القومية" منها. فثمة ألف عين تدرس وتحاسب وتسأل عن الجدوى والمشروعية، وثمة أصوات لا بد من نيل موافقتها قبل أي تحرك جدّي. أما في بلاد الحكم الأوحد، التي تصمم فيها البرلمانات حسب الطلب، وتُحتوى السلطات كافة في يد واحدة، فلا أحد يعيق أو يعطل أو يسائل القرارات التي يصادف أنها كلها "تاريخية" و"مفصلية". ولا أحد يحاسب حين يتضح أنها كانت كارثية.

ولا أحد أيضاً كان موجوداً ليعطل أو يؤجل قرار رفع سعر تذكرة مترو الأنفاق بالقاهرة، والذي يستخدمه يومياً 3.5 ملايين مواطن. إذ ضاعفت الحكومة، يوم الجمعة، سعر التذكرة، ما يعني مضاعفة ميزانية المواصلات لملايين المصريين، في حين انخفضت قيمة عملتهم إلى أقل من النصف. شكت الحكومة أن المترو –فخر إنجازات عهد مبارك- يخسر. ولم تسأل نفسها كيف يخسر كيان يرتاده يومياً ملايين البشر. مكان يصلح لعرض آلاف الدعايات التجارية، وتصلح أرصفته لاستضافة مئات الأكشاك التجارية، وتصلح تذكرته نفسها- كما اقترح شاب مصري نابه - كمساحة صغيرة ومميزة للإعلان. فضّلت الحكومة الحل السهل، أي مضاعفة سعر التذكرة. فضّلت ذلك لأنها تستطيع، ولأنها، على عكس إسماعيل ياسين في الفيلم، تستطيع أن تجني المال يومياً من دون الامتثال لأي شروط.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب