الثلاثاء 2017/03/14

آخر تحديث: 06:42 (بيروت)

المواجهة مع تركيا: معضلة أوروبية

الثلاثاء 2017/03/14
increase حجم الخط decrease
تصاعدت حدة المواجهة الدبلوماسية بين تركيا من جهة، وألمانيا وهولندا من جهة ثانية، بعدما صرح وزير الخارجية الألماني بأن الخلاف الحالي حول زيارات الوزارء الأتراك للمدن الأوروبية، بغية المشاركة في الحملات الإنتخابية، لن تقتصر تبعاته على الإجراءات الدبلوماسية، بل سيمتد ليعرقل المساعدات الإقتصادية لتركيا، داعياً أنقرة إلى "تحكيم العقل". وفي الوقت ذاته، أعلنت الدنمارك، التي لم تكن طرفاً في الخلاف، طلبها تأجيل زيارة رئيس الوزراء التركي إلي كوبنهاغن نهاية الشهر الجاري، تضامناً مع هولندا.

يصب التصعيد الحالي في مصلحة الحزب الحاكم في تركيا، وأردوغان، في المدى القصير، أو على الأقل يرجّح كفة التأييد الشعبي للتعديلات الدستورية التي توسع من صلاحيات الرئيس، المزمع الإستفتاء عليها منتصف الشهر المقبل. فالمواجهة مع أوروبا تأتي تأكيداً لخطاب حزب العدالة والتنمية الهوياتي، وتروج مروية تركيا المهددة داخلياً وخارجياً، والتي تم تكثيفها بعد الإنقلاب الفاشل العام الماضي كما وُظّفت لشرعنة وحشد التأييد للحملة القمعية تجاه المعارضة السياسية.

ربما يكون من المناسب أيضاً، الإشارة إلى أن هولندا وألمانيا، على وشك إجراء انتخابات عامة قريبة، تواجه فيها الأحزاب الحاكمة في البلدين، إتهامات بتساهلها مع الأقليات والمهاجرين وخصوصاً الجالية المسلمة. هكذا، فإن الموقف الهولندي المتشدد من الوزراء الأتراك، والإجراءات العنيفة والمبالغ فيها، لم يقتصر على منع التصريح لطائرة وزير الخارجية التركية بالهبوط في هولندا، بل امتد إلى احتجاز وزيرة شؤون الأسرة التركية من قبل الشرطة وترحيلها إلى الحدود الألمانية. وهذا ما يمكن قراءته في سياق الإنتخابات العامة الهولندية المزمع إجراؤها الأربعاء، وسعي الإئتلاف الحاكم في هولندا للظهور بشكل أكثر صلابة في مواجهة الجاليات الإسلامية، والتركية تحديداً، في ظل توقعات بحصول حزب "الحرية" اليميني المتطرف والمعادي للإسلام، على العدد الأكبر من المقاعد في البرلمان.

لكن، ومع الأقرار بدَور المناورات الإنتخابية، التي تستغلها الأطراف الأوروبية والتركية لمصلحتها في المدى القصير، ومع الأخذ في الاعتبار تراكم الخلافات الأوروبية التركية المتعلقة بالتقارب التركي الروسي واللاجئين والمسألة السورية وملف حقوق الإنسان والديموقراطية في تركيا، فإن الأزمة الحالية ليست مجرد حلقة شديدة الدرامية في سلسلة الخلافات. بل هي عرض لأزمة أوروبية داخلية متفاقمة، محورها معضلات إدارة مجتمع ذي صيغة تعددية. فبينما تبدو مسألة التعدد الإثني وقد حُسمت في الغرب، على الأقل على المستوى النظري والرسمي، فإن التعامل مع مجتمع التعدد الثقافي ما زال موضوعاً لتناولات شديدة التباين بين الجيران الأوروبيين. فبين النموذج الفرنسي الذي يقارب مسألة الإندماج بحتمية تبني القيم الوطنية الفرنسية، وبين النموذج البريطاني للتعايش مع التعدد ومأسسته (والذي يبدو جلياً أنه في طور التراجع اليوم)، فإن إدارة مجتمع التعددية الثقافية تبدو اليوم أكثر إشكالية من عقدٍ مضى، في ظل صعود اليمين الغربي، والضربات المتوالية التي يتلقاها مشروع الوحدة الأوروبي نفسه.

وتكشف الأزمة الحالية مستوى آخر من تعقيد التعدد. فالجاليات التركية في أوروبا، والتي يحق لخمسة ملايين من أبنائها التصويت في الإستفتاء التركي المقبل، يقيم نحو مليون ونصف المليون منها في ألمانيا وحدها، ويحمل معظم أفرادها جنسية البلد المضيف أو حق الإقامة الدائمة فيه إضافة إلى الجنسية التركية. هكذا، فإن جاليات يحمل أفرادها أكثر من جنسية، تستدعي حقوقاً تتعلق بالممارسات الديمقراطية والإجراءات القانونية في أكثر من بلد، في الوقت ذاته. ومع أن واقع الأمور يوحي، للوهلة الأولي، بأن الأمر لا يحمل معضلات على الإطلاق، فإن تصويت الجاليات والمغتربين في قنصليات بلادهم على أراضي البلد المضيف هو أمر معتاد، ويمارَس بشكل اعتيادي في أوروبا وخارجها. إلا أن الأمر يتخذ أبعاداً أكثر تعقيداً تتناسب مع حجم الجالية المعنية، والجالية التركية تحديداً بوصفها الأكثر تمثيلاً في دول الإتحاد الأوروبي.

ففيما أكدت المستشارة الألمانية، في سياق الأزمة الحالية، حق الأتراك المقيمين في ألمانيا في ممارسة حقوقهم السياسية، ومن ضمنها حق التجمع والمشاركة في فاعليات سياسية تتعلق بالشأن التركي على الأراضي الألمانية، فإن تصريحات وزير الداخلية الألماني جزمت بعدم السماح لممثلين عن الحزب الحاكم في تركيا بالمشاركة في تلك الفاعليات على الأراضي الألمانية. وفيما لم تمانع فرنسا، مشاركة مسؤولين أتراك في فاعليات مماثلة على أراضيها خلال الأسبوعين الماضيين، فإن الحكومتين الألمانية والهولندية بررتا رفضهما بأسباب تراوحت بين الإجراءات الأمنية، والادعاء بأن تلك الفاعليات تعيق الإندماج، وتثير الشقاق في المجتمع المحلي. وفي أحيان أخرى، أبدى مسؤولو الحكومتين الأوروبيتين رأياً في مضمون مواد التعديلات الدستورية التركية، بوصفها غير ديموقراطية، مؤكدين على رفضهم الترويج لها على الأراضي الأوروبية.

تعكس تلك الأسباب بعض المعضلات التي تواجه الحكومات الأوروبية في إدارة مجتمع متعدد الجنسيات: فعلى مستوى الأمن، إلى أي مدى يُتوقع من الدولة المضيفة أن تتعامل مع تبعات الخصومات السياسية والصراعات الإثنية والطائفية وغيرها في الدولة الأم، والتي ستجلبها الممارسة السياسية حتماً إلى البلد المضيف وتعمّقها؟ ومن ناحية الإندماج، كيف يمكن التعاطي مع حقيقة أن تصبح الدولة المضيفة ساحة لفاعليات تتعلق بالشأن السياسي لدول أخرى، ومن قِبل جاليات هي نفسها متهمة بعدم الإنخراط في النشاط العام المحلي لدول إقامتها؟ فهل لهذه الفاعليات أن تزيد من عزلة الجاليات وإنكفائها على نفسها أم العكس؟ وأخيراً، في ما يتعلق بمضمون النشاط السياسي، إلى أي مدى يمكن للدولة المضيفة أن تفرض وصاية على مضمون الفاعليات السياسية، أي تحديد مدى ديموقراطتيها من عدمه؟

لا تبدو الإجابة لتلك الأسئلة سهلة، أو ممكنة في المدى القصير، خصوصاً مع استغلال تصعيد الخلاف حولها من الأطراف كافة، لصالح أهداف إنتخابية قصيرة المدى، أو لصالح إيديولوجيات هوياتية يدعمها صعود اليمين عالمياً، وليس في أوروبا وحدها. لكن تلك الأسئلة في حد ذاتها، تكشف عن وجه آخر لتفاقم معضلة إدارة مجتمع التعدد في أوروبا.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها