السبت 2017/02/18

آخر تحديث: 12:34 (بيروت)

التاريخ من أعلى

السبت 2017/02/18
increase حجم الخط decrease
لم يعد سبقاً أو فخراً، أن يتباهى بلد أو مؤسسة أو كيان، بأنه انتخب أو اختار أو عيّن "أول امرأة" لمنصب كبير. نحن في العام 2017. مضى زمن طويل على "الأزمنة الحديثة" والحداثة والتحديث، وصرنا في عالم الواقع الافتراضي، حيث لكل امرئ -أياً كان نوعه وعرقه- صوت. دساتير المساواة بين الجنسين صارت حقائق تاريخية غطّاها غبار الزمن، وصارت النقاشات اليوم تدور حول الحقوق الكاملة للمثليين وعابري الجنس، وكل من اعتاد التاريخ البشري أن يحرمهم ويلعنهم. ولم يعد جدل الجنسين الكلاسيكيين في الصدارة، حتى في مواجهات كلاسيكية مثل التي خاضتها هيلاري كلينتون أمام دونالد ترامب. حتى في تلك الحالة، كانت السياسة الخارجية والتأمين الصحي والهجرة واللاجئين والشرق الأوسط و"أميركا العظيمة" أهم بكثير من كون هيلاري "أول امرأة تترشح للبيت الأبيض". ذلك أن شعاراً وتفاخراً من هذا النوع لا يليق إلا ببلاد لم يمر عليها كل ما سبق من أحوال تاريخية وفكرية، بلاد ما زالت في حفرة ما قبل الزمن الحديث. في هذا السياق، وبسببه ربما، جاء التهليل خجولاً لخبر تعيين المهندسة نادية عبده "أول امرأة مصرية في منصب المُحافظ"، في تعديل محدود أجرته الحكومة المصرية هذا الأسبوع.

لا تستحق مصر، أو لم تكن تستحق، أن يتأخر خبر مثل "أول امرأة محافظ"، إلى ما بعد العَقد الأول من القرن الحادي والعشرين. كما لم تكن تستحق أن يتأخر دخول النساء في سلكها القضائي حتى الأنفاس الأخيرة للقرن العشرين. فقد بدأ "العشرين" ونساء مصر يحققن مبادرات لم يسبقن بها المنطقة فحسب، بل سبقن الكثير من حواضر العالم. أسماء، على رأسها هدى شعراوي ونبوية موسى وسهير القلماوي ولطفية النادي ودرية شفيق.. حققت حتى ما كنّ يعتبرنه هن أنفسهن إنجازاً متأخراً للمرأة المصرية، حتى في ذلك الزمن البعيد، من أجل حق تعليمها وخروجها للعمل وتدريسها في الجامعة وقيادتها للطائرة ورفع سن زواجها وحصولها على حق التصويت. والأهم في كل تلك المبادرات، إنها جاءت، ككل الإنجازات الإنسانية، من أسفل، على عكس ما يؤمن به الكثيرون من المثقفين.

يسوّغ مثقفون اقترابهم من السلطة بقناعتهم بقوة التغيير من أعلى، بمحاولة استغلال أو الاستفادة من سلطة الدولة النافذة، في إجراء التغيير الاجتماعي. إن قراراً من الدولة بمجانية التعليم أو بمنح النساء حق التصويت أو تطليق أنفسهن، أجدى وأقوى وأسرع من آلاف النضالات من أسفل. إذا منحت الدولة "حقاً"، ومرّ عليه زمن كاف، فإنه يتحول إلى واحدة من بديهيات الاجتماع، وإلى معروف -بلغة الفقه- من المجتمع بالضرورة. وقد يكون ذلك صحيحاً إلى حد ما، في القرارات العامة، في القوانين على غرار مجانية التعليم ولوائح الأحوال الشخصية وحق التصويت وغيرها، على الرغم مما قد يقال في جدوى كل ما سبق، ومنه أن المرأة المصرية حازت بقرار من سلطة 1956 حق التصويت لكن تزوير الانتخابات نفسها استمر، وأن مجانية التعليم لم تمنع تدهوره وأن العرف الاجتماعي ما زال أقوى من لوائح الأحوال الشخصية. ومع ذلك، يبقى لتلك القرارات الدولتية نفوذها وجدواها، مهما تخللتها السلبيات، وأهم تلك السلبيات أن "تقدمية" السلطة وإسهاماتها في التغيير الاجتماعي، لا تنفصل عن رغبتها في التمسك بالحكم، وهنا مقتل محاولاتها للتغيير، ومن هنا جاء الاعتراض على نادية عبده "أول امرأة محافظ" في مصر.

كان "نجاح" المهندسة نادية عبده في انتخابات برلمان 2010 (أي في عهد حسني مبارك)، أحد أسباب الاحتجاج على مناصبها حتى قبل توليها مقعد المحافظ. وعلى الرغم من أن الحزب الوطني الحاكم، دأب، في زمن مبارك، على تزوير الانتخابات بصورة منهجية، إلا أن انتخابات 2010 كانت فجة وهزلية في تزويرها، إلى درجة أنها عُدّت أحد أبرز الأسباب لتفجير ثورة يناير بعدها بأشهر قليلة. خلا برلمان 2010 من المعارضة على إطلاقها، و"خسر" أبرز قيادات المعارضة في معاقلهم الانتخابية. وكان بعض تلك الخسارات مستحيلاً، كخسارة حمدين صباحي في مسقط رأسه. وفي المقابل، حقق مرشحو الحزب الحاكم نجاحات هزلية بأرقام أسطورية، وفازت المرشحة نادية عبده، بحسب نتيحة الانتخابات، 80% من أصوات الدائرة، وبعدد أصوات فاق ربع مليون صوت، في بلد لا يذهب فيه إلى التصويت أكثر من 50 أو 60 ألف ناخب في الدائرة. هكذا، أعلنت لجنة الانتخابات فوز نادية "باكتساح"، غير أن المجلس كله حُلّ بعد ثلاثة أشهر باندلاع ثورة يناير.

خرجت نادية من المجلس، لكنها ظلت تتدرج في مناصبها الحكومية كمهندسة ذات خبرة بمشروعات المياه والصرف الصحي، وتولت رئاسة شركة حكومية كبرى في المجال نفسه لمدة عشر سنوات، واختيرت نائباً لمحافظ البحيرة لثلاث سنوات، قبل أن تحل محله هذا الأسبوع وتصبح "أول امرأة مصرية في مقعد المحافظ". ستستخدم الصحف ومواقع الأخبار عبارة "أول امرأة...إلخ" في وصف نادية عبده، لكن ذاكرة المواطنين قد لا تتذكرها إلا كقيادية في الحزب المنحل و"فائزة" في البرلمان المزور، وتلك هي مشكلة "التغيير من أعلى".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب