الإثنين 2017/02/13

آخر تحديث: 15:13 (بيروت)

مئوية الثورة الروسية:إمتهان الهزائم

الإثنين 2017/02/13
increase حجم الخط decrease

مع إطلالة العام 2017 تحل مئوية الثورة الروسية ، الحدث ، الذي قال عنه جون ريد في حينه ، بانه هز العالم . ولم يكن الرجل بعيداً عن الصواب في قوله ، فقد شكل الحدث في حينه زلزالاً مدوياً ، بقيت إهتزازاته الإرتدادية تتردد في العالم على امتداد القرن العشرين بمعظمه. فقد وقف العالم في حينه مشدوهاً أمام بلد يشغل أكثر من سدس الكرة الأرضية ويعلن عن انطلاق عملية إعادة تكوين آدم التوراتي وخلقه من جديد ، وفق صورة محددة المعالم سلفاً ليصبح قادراً على بناء الشيوعية . فقد كتب مكسيم غوركي يقول ، بأن " البلاشفة بزعامة لينين يقومون بتجربة علمية قاسية على جسد روسيا الحي ، على الشعب الروسي ، على البروليتاريا الروسية .. تهدف إلى إعادة تكوين المادة البشرية الحية" . والمدهش في الأمر ، أن مختبر الشيوعية الروسية ، وكما يشير الفيلسوف الإجتماعي الروسي ألكسندر زينوفييف ، قد نجح في ذلك وأنتج ما جرت تسميته Homo Soveticus ، الذي كتبت عنه الكثير البيلوروسية سفتلانا ألكسييفا ، صاحبة نوبل للآداب العام 2015 .

الفكر، الذي حكم روسيا بعد العام 1917 لعب دوراً كبيراً في تكوين الفكر السياسي في بلداننا ، سواء من خلال الأحزاب الشيوعية والقوى السياسية والإجتماعية الأخرى ، التي نشأت في حضن البلشفية الروسية أو تأثرت بها ، أو من خلال حركة التعليم في روسيا السوفياتية . والعجز ، الذي أظهره هذا الفكر ، مع سواه من الإتجاهات الفكرية الأخرى ، عن توقع الزلزال ، الذي تعيشه شعوب المنطقة الآن ، دفعنا إلى التوقف عند الحدث الروسي في مئويته ، آملين في تلمس مواطن العجز هذا ، ومغادرة هذا الفكر لثقافة الشعار والإلتحاق بثقافة المعرفة .

ولا بد من القول ، بأن تذكر الحدث لا يعني الإحتفاء بذكراه . فتذكر الزلزال لا يعني ابداً أنك تحتفل بذكرى الزلزال. ولا يجوز ، برأينا، إغراق الحديث عن الذكرى بالتفاصيل التاريخية لها ، إلا ما وجب تصحيحه من هذه التفاصيل ووضعها في سياقها التاريخي الفعلي، الذي افلحت الشيوعية الروسية في تشويهه ، بل وطمسه كلياً. كما لا يجوز أيضاً ، في معرض الحديث، مصادرة راي الشعوب الروسية في ما تمخضت عنها هذه التجربة في بلادهم. فثمة شبه إجماع في روسيا على اعتبار انتصار البلاشفة في الإستيلاء على السلطة في أوكتوبر العام 1917 بمثابة الكارثة ، التي حلت بروسيا حتى سقوطهم في العام 1991 . وتعتبر سلطة الكرملين الراهنة أن فكر لينين كان بمثابة القنبلة الموقوتة ، التي وضعت في أساس الكيان الروسي ، وانفجرت به في العام المذكور. والحزب الشيوعي ، الذي نجح في الإنتخابات الرئاسية في العام 1996 ، التي تضافرت جهود كل الأوليغارشيين لتزويرها وإسقاط المرشح الشيوعي ، هو الآن الحزب الثالث في مجلس الدوما الروسية .

كما لا بد من القول، بأن الحديث عن روسيا بهذه المناسبة  تحتمه ضرورة التعرف إلى الصورة الحقيقية لروسيا ، التي أصبحت بين ظهرانينا في المنطقة وتتصدى لرسم مستقبلها ككل ، وليس مستقبل سوريا فحسب ، من خلال وجودها العسكري . وتتمتع روسيا بتأثير ونفوذ كبيرين في المنطقة ، يستند إلى الصورة النمطية ، التي كونتها عن نفسها في المرحلتين القيصرية والسوفياتية معاً ، كبلد يحمي بعض الطوائف الدينية المسيحية بوجه تسلط  الغالبية المسلمة ، او كبلد مناهض للإمبريالية الغربية ونصير لقضية تحرر الشعوب.

لا يتفق المؤرخون الروس على تعريف واحد للثورة الروسية . البعض منهم يعتبر أن ثورة شباط البورجوازية الليبرالية  وثورة أوكتوبر العام 1917 تشكلان معاً الثورة الروسية . البعض الآخر يعتبر أن الثورة الروسية هي الثورتان معاً إضافة إلى الحرب الأهلية ، التي تمخضت عنهما ، والتي براي السلطة الروسية الراهنة ، لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا .  . واضعو كتاب "تاريخ روسيا في القرن العشرين" يقولون ، أن الثورة الروسية انطلقت في العام 1905 واستمرت حتى نهاية الحرب الأهلية العام 1922 ، تخللها "انقلاب أوكتوبر1917 " ، وهم ينتهجون بذلك نهج عدد من المؤرخين الفرنسيين ، الذين يشملون بتعبير "الثورة الفرنسية" ، من حيث المضمون والتعاقب التاريخي ، عدة ثورات في آن معاً : ردة العام 1794 ، ثورة العام 1840 وكمونة باريس العام 1871.

بين الأمور ، التي غيبها البلاشفة في سردهم التاريخي ، هي أنهم قد فوجئوا بثورة شباط مع كافة المنظمات السرية الأخرى. ويستدل المؤرخون على ذلك بعدة وقائع منها ، أن لينين قال في كانون الثاني 1917 ، أي قبل الثورة بأيام ، أمام الإشتراكيين السويسريين الشباب : " قد لا نحيا ، نحن العجزة ، إلى حين المعارك الثورية للثورة القادمة . لكن بوسعي التأكيد بأن الشباب سوف يحالفهم الحظ ، ليس للنضال في سبيل الثورة البروليتارية فقط ، بل والإنتصار فيها أيضاً" . ويُنقل عن ممثل المكتب الروسي للجنة المركزية للبلاشفة ، الذي كان متواجداً عشية ثورة شباط في بتروغراد ، قوله ، بان " جميع المنظمات والجماعات السياسية السرية كانت ضد التحرك في الأشهر القريبة القادمة من العام 1917 " . ويؤكد تروتسكي ، "أن أحداً لم يرسم مسبقاً طرق الإنقلاب ...لم يدعُ أحد من فوق للثورة ، بل إن الغضب ، الذي تراكم خلال السنين انفجر ، وعلى نحو مفاجىء للجماهير نفسها" .

ومما يذكر في هذا الصدد ، أنه ، خلال أحداث ثورة شباط 1917 ، لم يكن يوجد عضو واحد من أعضاء اللجنة المركزية للحزب البلشفي في بتروغراد . فالحزب كان قد تم حظره من قبل الحكومة القيصرية في العام 1914 ، كحزب معاد للحرب ومشاركة روسيا فيها . وفي تشرين الثاني من العام 1916 تم اعتقال أعضاء كتلة البلاشفة في مجلس الدوما.

كما لا يستقيم الحديث ، الذي دأب البلاشفة على تكراره طيلة إقامتهم في السلطة ، من  أن الثورة حتمها تخلف روسيا الإقتصادي . فقد كانت روسيا تتقدم كل الدول الأوروبية بوتائر النمو الإقتصادي . وكان إقتصادها يحتل المرتبة الرابعة في العالم ، بينما يحتل الآن المرتبة العاشرة ، ويعتبر، من حيث الخدمات وتطور البنية التحتية بين الإقتصادات الإنتقالية .  

إن اهم التأثيرات ، التي تركها الفكر البلشفي على تطور الفكر السياسي في بلداننا ،تأتي في الطليعة منها مقولة أوالية الدولة على المجتمع والإنسان . وهي ميزة تتسم بها روسيا منذ أن نشأت كدولة . لكن الميزة الأهم ، التي تميز بها البلاشفة ، هي الفكر الإنقلابي ، الذي ميز الحزب البلشفي منذ نشأته كحزب يهدف إلى استلام السلطة بكل الوسائل . وقد تركت هذه الميزة أثرها البالغ في الفكر السياسي في منطقتنا ، الذي احتضن الإنقلابات العسكرية ، التي صادرت المجتمع والإنسان معاً .

ومما يذكر في هذا الإطار ، أن حافظ الأسد حين سئل بعد عودته من دورة تدريبة في روسيا ، ما الذي تعلمه من روسيا ، قال بما معناه ، تعلمت أمراً وحيداً ، وهو أنه إذا كان لديك عدد من الجنود ومن عناصر المخابرات ، بوسعك تسلم السلطة . وبغض النظر عن صحة هذه الرواية ، فهي لا شك تعبر تعبيراً دقيقاً عن الفكر الإنقلابي للبلاشفة .

إضافة إلى ذلك كانت مقولة التحزب هي إحدى المقولات الأساسية ، التي كانت تشكل شرط انتماء الفرد للحزب . وهي مقولة تفترض خضوع الفرد بكل علاقاته بأسرته ومجتمعه ومصالحه ، لمصلحة الحزب . وجعل البلاشفة الإنتماء الطبقي للفرد فوق كل انتماءته ، وتم تقسيم المجتمع إلى طبقات تخدم جميعها مصالح الطبقة العاملة كتعبير عن مصالح الشعب بأسره .

في الإطار عينه اعتبر البلاشفة أن وظيفة الأدب والفنون والثقافة هي خدمة مصالح الطبقة العاملة ، فليس من فنون وثقافة وآداب مستقلة بذاتها ، وقسموها إلى فنون وآداب بروليتارية وفنون وآداب بورجوازية . وشهيرة في هذا الإطار محاكمة الشاعر الكبير يوسف برودسكي العام 1964 ، حيث أنكرت عليه القاضية وجود مهنة إسمها الشعر ، تُطعم خبزاً . فليس في الإتحاد السوفياتي مهنة كهذه .

لا شك أن مئوية الثورة الروسية سوف تشهد الكثير من النشاطات الثقافية والبحثية في مختلف بلدان العالم ، وليس في روسيا وحدها .وقد نكون نحن في هذه المنطقة بين أكثر المعنيين للتوقف عند هذا الحدث ، الذي ترك تأثيرا كبيراً في مجمل الفكر السياسي في هذه البلدان ، أملاً في فتح نقاش يتجاوز ثقافة الشعارات ، التي نجيدها ، وينحاز إلى ثقافة المعرفة والواقع كما هو ، وليس كما نتخيله .




increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها