السبت 2017/12/09

آخر تحديث: 08:14 (بيروت)

التصفيق بيد واحدة

السبت 2017/12/09
increase حجم الخط decrease

خلق الله العينين لمشاهدة الرئيس، وهو يواظب على معجزة الفعلين المضارعين في نشرة الأخبار: يستقبل ويودع.

وخلق الله الأذنين، لسماع خطبه التاريخية.

وخلق الله اليدين للتصفيق له، على كلمات بالية يكررها في خطاباته كلها، فنتصرف وكأنها أخبار العثور على شجرة الخلد.

خيرتني الممرضة الألمانية الحسناء، التي لم أعرف اسمها، ليس بين الموت على صدرها، أو الموت على دفاتر شعرها، بل بين ألوان الجبيرة، بعد أن سحبت درجاً، يجري بسلاسة وكأنه سمكة في الماء، فلم أعترض، فلا رأي لسقيم، وكسير، ونازح، وأعجم، ولم أقل: إنّ الأسير لا يهمّه لون القيد الذي سيدمي معصمه، فاخترت الأزرق من بين ثلاثة ألوان فهو لون السماء الأولى.

طلبتْ مني الجلوس قربها، فاقتربتُ وجلاً، أتجنب إيقاظ الجن الهاجعة، ثم طلبت يدي، ليس للزواج، فقد مضت سنة الأولين الطيبة، فمددت اليدين ضارعتين معاً على النضد، من أجل تجبير اليسرى بالجبس، وكدتُ أنشد لها سينية البحتري، فأقول: صنتُ نفسي عما يدنّس نفسي، وترفّعت عن جدا كل "جبس". استلمتْ اليد المكسورة، وردّتْ الثانية إلى أهلها عارية مردودة، فأحسستُ بأن ألمها قد سكن، ويدي متورّمة من الخجل بين يديها.

وأخرجتْ شريطاً طبياً عريضاً، عرفتُ في ما بعد أنه شريط من الجبس، سيجفّ من اللوعة فور شمّ هواء الحرية، وقاستْ ذراعي، والذراع أداة قياس أصلاً، ثم أحكمت حوله "جدا كل جبس"، وكان عهدي بالجبس آخر مرة من عشر سنوات، فهي المرة الثانية التي تكسر فيها يدي، أن يجبل في وعاء مثل الطين، هذه أول مرة أرى فيها جبس اكسبريس وديلفري.

حصرتْ يدي بأصابعي التي أحتاجها في الكتابة، الكتابة قديماً كانت بالقلم، الذي أقسم به الله في سورة نون، وهذه الأيام تحتاج الكتابة إلى الأصابع كلها. أحكمتْ حول الفريسة شباك الشاش الطبي حتى كفنّتها، وحنّطتها، ووأدتها وأداً، في التراب الأبيض، الذي تحجر كأن عيني ميدوزا نظرت إليها، فرجوتها أن تبقي لي أصابعي حرة، فأنا من بلد دفع مليون شهيد من أجل الحرية، ولم تحرر شبرا من أرضها، لكنها أبتْ مبتسمة، وكانت ابتسامتها رشوة كبيرة، والرشوة حرام، لكني قبلت رشوتها، فأنا من ضعاف النفوس، وتابعتْ عملها، وتركتْ مشكورة الإبهام حراً، وجعلت في نهاية الأصابع ما يشبه القعفة لكي تستند عليها يدي، أو لوقايتها من الصدمات، فصرت مثل أبي حمزة المصري.

جاء الطبيب، وهو نازح سوري قديم إلى بلاد الجرمان، اسمه يوافق اسمي، وحكم على الجبيرة بأنها صالحة.

كنت قد قصدت عملي فجراً على الدراجة، وقطعت ستة فراسخ في الغابة، على ضفة النهر، وبلغت جسراً لولبياً على قناة مائية، يشبه ألعاب ديزني لاند، أطلقت عليه اسم زميلتي في العمل ساندرا، فرقيته صعدا وأنا ألهث، وعادة ما أترك الدراجة لعنانها في النزول اللولبي، وهو نزول لا يخلو من المغامرة واللهو، والمرء عندما يكبر يزداد حبه للهو والغزلان، وكنت قد نجحت في النزول بأقصى سرعتي مائة وست مرات، لكني هذه المرة سقطت، وأنا أؤدي بطولة فيلم "الرصاصة التي لفت الكوع"، فلكل فارس كبوة. انزلقت بسبب الجليد الطارئ الذي لم أضعه في حسباني، اصطدمت بجداري الجسر وعرضه متران، وتدفقت في مجرى الجسر المزرابي إلى الأسفل مع دراجتي، أقبّل مثل قيس ليلى ذا الـــــــجدار وذا الجـدارا، وما الديار شغفن قلبي، لكن حب الحرية والأحرار، ثم غلبتني غاشية، ففقدت الوعي.

لم يطل غيابي عن عالم الشهادة سوى دقائق، أيقظني البرد من عالم الغيب، نهضت، والرضوض في سيقاني، وظهري لم يكن قد شفي من العملية الجراحية، التي استخرجت بها سكاكينُ الأطباء الرصاصةَ الغادرة من ظهري، كما يستخرج المسك من صدر غزلان المسك، وحرموني من ذكرى الثورة السورية.

فكرت في العودة إلى البيت، فوجدت المسافة طويلة، والشقة بعيدة، والسفر وعثاء وجليد، وخلطت بين دموعي وبين الطل الذي تهدل عناقيد من رموشي، فقصدت العمل أدفع أعضائي شلواً شلوا، وأحاول جمع شتاتها في جسد واحد، وصلت متأخراً، وأخبرت مديري السيد باسكال البولندي عن الحادث، الذي سأل عن مكانه، واطمأن إلى أنه خارج حدود مملكة العمل.

ساعدتني كولشن اليونانية التركية الأصل، في كتابة عنوان العمل على الواتس آب، أخبرتها، وأنا أتأوه أن اسمها يعني بالكردية والتركية والفارسية: الضفيرة الممشطة. اتصلت الضفيرة الممشطة بابنتي، التي حضرتْ بسيارتها ونقلتني إلى البيت، بعد أن ربطت أشلائي بالحزام. غيرتُ ثيابي، بيد واحدة، تجهزاً للعيادة، فارتديتُ شروالاً من شروايل البشمركة يسع فيدراليتين ونجمة، لسببين؛ أولهما أن الشروال الواسع سيخفي هضبة الورم الذي برز لي في أعلى فخذي، فالبنطال لا يسع سوى ردفين، والثاني أن الشروال أوسع وأروح لبساً وخلعاً، فيدي معطوبة، ويدٌ واحدة لا تصفق، وإن كان القلب ما زال يخفق مثل علم ممزق برماح الريح على سفينة غارقة في طين الساحل.

لقد وقعت يدي في أسر الحجر الجبس، ولقيت من ساندرا نصبا.

كان صديقي الطبيب الجراح أبو الصفا، قد عمل حادثاً مشابهاً، ونصحني بارتداء خوذة، لكني لم أستبن الرشد إلا في ضحى الغد، فأنا لا أزال مثل الفرسان الأوائل، أعيش فوق صهوة الدراجة، وعليها أقضي كل حوائجي، كرة بعد إجفال، فهي أكثر حرية من السيارة والدراجة النارية. الإصابات كثيرة في جسمي، وهي أكثر من جروح سيف الله المسلول خالد بن الوليد، الذي قضى على ضفاف العاصي، في فراشه، لكن جروحي من حروب العيش لا من الفتوحات؛ جرح في الرأس لم ينتبه له الطبيب الصارم الودود، والردف الثالث يحتاج إلى تذويب على نيران مراهم الأطباء ودهونهم، ورضوض من المحيط إلى الخليج، وساعتي لا تزال تنبض مثل مؤخرة الجدجد في المساء، ومعها دراجتي في موقعة الحادث، أشلاء معدنية.

خرجت بعد أربع ساعات من العيادة، وقصدت البيت على الدراجة طبعاً، من غير خوذة، واحترت كيف أجلس على قربوس الدراجة، فلي ثلاثة أرداف، أخلط من الألم بين الردف الطارئ والردف الصحيح، والأرض جليد، وتذكرت الشاب الفلسطيني عامر درويش، الذي حرك جرافة بجهاز هاتف. كانت قد كسرت يده، فاعتكف في البيت، يدرس الهندسة حتى وصل إلى اختراع عبقري، وهو قيادة الجرافات والآليات بالهاتف، فحسدته، فأنا لن أحرك سوى جرافة قلبي التي لا أجرف بها سوى ثلوج الحنين التي تذوب تحت شمس الهجران.

وصلت، وأكلت بيد واحدة مثل الهنود، وهي نقيصة تعاب في ديار المسلمين، وداعش تقيم عليها الحد، فإهانة النعمة كفر. كانت يدي المأسورة في كفن الجبس قد بدأت تحكني، فطلبت ملعقة القهوة ذات الذراع الطويل لحكها، وفكرت في الشعب السوري، الذي عاش في جبس الأسد نصف قرن من غير حكّة واحدة. قلّبت القنوات حتى استقر الهدهد على الجزيرة، فلا تزال من أنظف القنوات العربية، وقد شابها ما شابها بسبب حصار الجبس من الأشقاء الأعداء. كان السيسي يخطب في عيد المولد النبوي، ولأنه طبيب وفيلسوف، بدأ يصف الحالة الصحية لمصر، وكان يدعو الناس إلى الردّة: "يا ترى شكل الإسلام والمسلمين عامل ازاي، بصوا كده الناس كلها خايفة مننا، الناس كلها مفزوعة مننا"..

ولم تكن الناس خائفة سوى منه وحده. شبه رجل يرعب تسعين مليونا من الشعب، ثم تابع وقال بحكمته الشهيرة: "لكن في الآخر نحن الأدوات التي يتم استخدامها لتدمير دولنا". فضحكت حتى كدت أفحص بقدمي الهواء، لولا الرضوض والجروح والكدمات، فصفقت له على صدقهِ، وكنت وأنا أصفق تحكني يدي، وأفكر في أن العلماء اخترعوا جبس اكسبريس، ولم يخترعوا بعد جبيرة مرنة " فلكسبل" أو "ستريش"، تُخلع وتُلبس مثل القفاز. صفقت بيد ثقيلة بأغلال الجبس، ولأنّ لي يدا واحدة، صفقت له لطماً، على وجهي، لكن الذبابة بقيت على وجه الأمة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب