الإثنين 2017/12/18

آخر تحديث: 10:52 (بيروت)

المهنة: وسيط بين المرء وربه!

الإثنين 2017/12/18
increase حجم الخط decrease

لا كهنوت في الإسلام، لا وساطة بين المرء وربه، نحن لا نحتاج العلمانية لأنه لا كنيسة لدينا... هكذا نقول، ربما يصدقنا النص، لكن الواقع يكذبنا. فلا واقع التدين اليوم بلا كهنوت، ولا نحن أحرار ليس بيننا وبين الله وسيط من شيوخ المؤسسة الدينية وعلمائها وفقهائها ومحدثيها ودعاتها ووعاظها ومن ورائهم ظهيرهم السياسي المدجج بالسلاح، ذلك الذي يخدمهم قدر ما يستخدمهم، فيحكم بهم ويتحكمون فيه، وكل يستمد من الآخر سلطته غير الشرعية على رقاب الناس.

في الإسلام نواة عقدية صلبة، ومقاصد واضحة، تحفظ له طابعه وهويته، كما أن فيه مساحات هائلة من الحركة داخل التاريخ، فهماً وتأويلاً وإعادة نظر. فيه تنوع في الآراء والقراءات للنص الواحد، في الزمن الواحد، والمكان الواحد. ظلت النواة واختفى التنوع، وبات ما يسمونه الدين الحق واحداً، وهو ما تراه المؤسسة الدينية ومن خلفها الحاكم أو ما يراه الحاكم - ولي الأمر - ومن خلفه مؤسسته الدينية، وعلى الناس السمع والطاعة.

لا يفهم المسلم المعاصر معنىً - سوى البركة - لقراءته اليومية للقرآن الكريم، طالما أن القرآن انتهى، وتحددت معانيه ومراميه، وحُسم تفسيره وتأويله، واعتمد فهمه "الصحيح"!

لا يفهم المثقف المسلم المعاصر، ما معنى أن يحصّل علوم عصره في اللغة والفلسفة والاجتماع، وأن يُحرم من أن يصحبها وهو يجيل النظر في كتاب الله وما روي عن نبيه من سنن وأحاديث، طالما أن علوم العصور القديمة كافية إلى الحد الذي جعل منها بعض مشايخ المؤسسة ديناً داخل الدين، وشرعاً داخل الشرع، ووحياً يسيطر على مفاصل الوحي، وهي التي وضعها بشر خطّاؤون مثلنا ليستعينوا بها على فهم النص؟!

لا يفهم الناس، كل الناس، ما معنى أن تدعي فئة من البشر أنهم وكلاء النص وصاحبه، ومن أراد الله فليتحدث إليهم وليسمع منهم وليأتمر بفتاواهم ولا يخرج من عباءتهم وإلا خرج من الملة!

الوساطة موجودة، ولها مبرراتها، مكتب توكيلات لله على الأرض، كهنوت واضح من دون مواربة، وإن أنكر أصحابه كهانتهم، كما ينكر بشار الأسد براميله المتفجرة، وكما ينفي السيسي وجود معتقلين في مصر. لكن، ما هي المبررات؟ يقولون إنهم متخصصون في الدِّين، كما أن الطبيب متخصص في الطب، والراقصة متخصصة في الهز، والطباخ متخصص في البامية والكوسى والقرنبيط. والسؤال: هل يجوز قياس الدين على العلوم الطبيعية أو المهن التكنوقراط، والشيخ على الطبيب أو الرقاصة أو الطباخ؟ وهل عرف التاريخ الإسلامي القديم - حتى في عصور انحطاطه - صفة وظيفية اسمها: متخصص في الدين؟

الحقيقة أننا لا نملك نصوصاً دينية ولا مرويات تاريخية صحيحة من الأزمنة الأولى، تفيد بوجود متخصص أو وسيطى في فهم النصوص وتحديد مراد الله منها - دون غيره. كما أن التخصصات لم تكن يوماً في الدين، الذي هو الوحي وبيانه من سنن، إنما كانت التخصصات في علوم نظرية، ابتكرها بشر، وطوّرها بشر، وانتقدها بشر هم أقرب إلى الفلاسفة منهم إلى الكهنة، وحاولوا من خلالها وضع أصول لتسهيل الفهم، في زمانهم ووفقاً لظروفهم الاجتماعية والسياسية، من دون أن يدعي عقلاؤهم على الأقل عصمة لهذه العلوم. وهو ما جاء بعد ذلك على أيدي مقلّدين، أرادوا أن يقفوا بالزمن عند لحظة تأسيس العلوم، لا يتجاوزونها بالنقد أو التحليل، ولا بالحذف أو الإضافة أو حتى مراعاة السياق. 

من هنا، يأتي هذا الإجلال والتقدير المبالغ فيه للتراث ولمن يلبسون قمصانه. من هنا يأتي دعم الدولة، بأجهزتها ومؤسساتها وأموالها الطائلة وإعلامها الكاذب، لتشكيل حساسية تفيد بأنه لا دين إلا ما يراه الأزهر أو الحوزة، أو ما شاكلهما، وفقاً لتباين الأنظمة ومصالحها. وإذا اختلفت سياسات الدول، اختلف أصحاب العمائم، وبات الشرع كُرةً بين أقدام الحكام ومشايخهم، والفائز هو من يملك أكثر ويدفع أكثر ويفتح قنوات أكثر ويأت بمعلنين أكثر. والأهم، هو صاحب القدرة الخطابية على أن يزايد أكثر ويخيف أكثر ويرعب أكثر، ويحاصر خيالات أتباعه ومريديه بصور العذاب والنيران والأفاعي والشجعان القرع الذين ينتظرونه في العالم الآخر حال عدم استجابتهم له.

وسط كل هذا القبح، لا يحتاج المسلم المعاصر إلى التخلص من هوس الوسطاء، وهوسه بهم فحسب، إنما هو محتاج لأصوات عاقلة، لا تتسلط عليه، بل تشاركه مقاومة كل هذا القبح. أصوات ليست بالقليلة، بعضهم أبناء المؤسسة، والبعض الآخر أبناء ثقافة عصرهم فيما هم يدينون بولاءاتهم الأولى لهذا الدين وثقافته وحضارته وانحيازه المطلق للإنسان، ولقيم العدل والحريّة والرحمة والمساواة، قيم الثورة على الطغاة ومقاومتهم. تراهم متناثرين كحبيبات المطر الخفيف على النوافذ في ليلة شتوية: على رفوف بعض المكتبات، في صفحات شخصية لا تحظى بملايين المتابعين في مواقع التواصل، في مقالات تجد طريقها بصعوبة إلى النشر. لا وجود لهم في الشاشات بعد، تلك التي لا تتحمل الكلفة الشعبوية لوجودهم. أصواتهم منخفضة، لكنهم موجودون، لم يفقدوا القدرة على المحاولة. ثمة أمل، ومَن يدري؟ لعل الغد قريب.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها