الثلاثاء 2017/11/07

آخر تحديث: 07:38 (بيروت)

حرب غير مُقنعة على إيران

الثلاثاء 2017/11/07
increase حجم الخط decrease
بعد تراكم تصريحات أميركية وخليجية تصب في اتجاه الحرب على النفوذ الإيراني في المنطقة؛ أتى إعلان رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري استقالته بمثابة إعلان بدئها. إلا أن هذا الإعلان، بصرف النظر عن إخراجه وشكله، لا يبدو في سبيله إلى إقناع شرائح واسعة في المنطقة، وتحديد تلك الشرائح المنتمية إلى بلدان معنية مباشرة بالنفوذ الإيراني، بل معنية أيضاً بمواجهته بالأفعال لا بالأقوال.

هذه الحرب المعلنة غير مقنعة، ومبررات عدم إقناعها وجيهة جداً، وتمتد من المنطقة نفسها وصولاً إلى الغرب وإلى مركز القرار الأميركي. هذا ما يجعل إعلان الحرب أقل جدية، حتى إذا امتلك بعض المنخرطين فيها النية والعزم، لأن هناك شكوكاً أكثر جدية تطال النوايا والعزم أيضاً، إذا لم نقل أن أصحابها ينظرون بريبة شديدة إلى ما وراء النوايا، وبمثلها إلى المدى الذي سيصله الإصرار على تنفيذها.

أولاً، ورغم إقرار الكونغرس بجمهورييه وديموقراطييه أربعة قوانين تستهدف النفوذ الإيراني، ليست إدارة ترامب في أحسن أحوالها. اليوم هناك شخصيات كانت لصيقة بترامب تحت الإقامة الجبرية بسبب ملف الاتصال مع موسكو وتدخّل الأخيرة في انتخابات الرئاسة، وقد يكون لاحقاً من أولويات ترامب وطاقمه التخلص من تبعات التحقيق، مع توقعات بأن الملف سيتقدم ليطوق عنق ترامب نفسه. صحيح أن البعض يراهن على الأخير بأن يهرب إلى الأمام، أي أن يدخل مواجهة خارجية كبرى للتغطية على ملفه الداخلي، إلا أن هذه المراهنة لا تملك مقومات كافية، وفي حال حدوثها فلن تشن إدارة ترامب حرباً خاطفة ساحقة. طبيعة المواجهة، وفق ما أقره الكونغرس، هي طويلة الأمد، ويمكن أن تترافق بعمليات عسكرية محدودة هنا أو هناك تستهدف الميليشيات التابعة لإيران، وهذا النوع من التكتيكات يستلزم وقتاً طويلاً، ويستلزم استقراراً وحنكة سياسيين تقول غالبية الأمريكيين أنهما مُفتقدان الآن في واشنطن.

عطفاً على وضع إدارة ترامب؛ لا تشاطر الحكومات الأوروبية واشنطن موقفها من الملف الإيراني النووي، وحتى من قضية نفوذ إيران في المنطقة. وأغلب الظن أن الموقف الأوروبي الحالي مبني على الريبة بجدية الموقف الأميركي واستمراره، المسؤولون الأوروبيون لا ينظرون عموماً بجدية لمواقف ترامب، بخاصة لأنه حريص على الفصل بين النفوذين الروسي والإيراني، بينما مواجهة النفوذ الروسي لها الأولوية أوروبياً، ومن ضمنها أتت العقوبات على موسكو لتدخلها في أوكرانيا. وبالطبع هناك أيضاً المنافع الاقتصادية جراء رفع العقوبات عن طهران، والتي لا تريد حكومات غربية التضحية بها من أجل مواجهة غير موثوق بها وباستمرارها طويلاً.

أما إقليمياً فمن السهل القول بأن هذه المواجهة أتت متأخرة جداً، وفي زمن قد يكون الأسوأ لجهة ما تشهده العلاقات الإقليمية من اضطراب وتفسخ. هناك أولاً ما هو معروف من خلافات خليجية، وهي بالطبع خلافات مفيدة لطهران، بما فيها الخلافات غير المعلنة، إذ لعبت مسقط "الصامتة دوماً" دوراً نشطاً في إبرام الاتفاق النووي أيام إدارة أوباما. أصوات غير قليلة ضمن الوضع الحالي تردّ التصعيد ضد إيران، والتصعيد ضمن المنطقة ككل، إلى تغييرات داخلية ضمن بعض دول الخليج، وتعتبره بمثابة قنابل صوتية وظيفتها صرف الانتباه على الأحداث الأهم التي تقع في غير مكان.

أيضاً هناك الخلاف التركي الخليجي، وعلى رغم من محاولات إخماده إلا أنه بقي مستعراً منذ قيام السعودية والإمارات بدعم انقلاب السيسي، على حساب الرئيس السابق محمد مرسي الذي يحظى هو وجماعة الإخوان بدعم من حكومة أردوغان. ستكون ضرورية أيضاً الإشارة إلى الخلاف التركي مع واشنطن، على خلفية دعم الأخيرة الميليشيات الكردية التابعة لحزب العمال في سوريا، وهذا ما يجعل حكومة أردوغان خارج أي تكتل إقليمي ضد طهران، فضلاً عن مضي أنقرة بثقلها الإقليمي المهم في تفاهمات ثلاثية تجمعها بطهران وموسكو.

والمواجهة أتت متأخرة إقليمياً بعد تسليم جزء معتبر من الملف السوري لموسكو التي لن تفك تحالفها مع طهران في سوريا، وحتى من الناحية العملية يحتاج الطيران الروسي جهد الميليشيات الشيعية على الأرض لينجز مهماته. لا يقلل من أهمية هذا اتفاقيات خفض التصعيد الحالية ما دام تجدد المواجهة وارداً في أي وقت، وما دامت موسكو لن تحظى بصفقة عظمى تخفف بموجبها من تحالفها مع نظام الملالي. الملف السوري كان ليكون المدخل الأمثل لمواجهة الطموحات الإيرانية، لولا تخلي إدارة أوباما عنه لقاء توقيع الاتفاق النووي مع طهران، ومن ثم غياب أية استراتيجية أميركية في سوريا لدى إدارة ترامب.

على الصعيد العراقي أيضاً لم يكن مفهوماً ذلك الموقف اللامبالي الذي اتخذته إدارة ترامب من تصعيد حكومة العبادي تجاه إقليم كردستان، أو انتهاج الأخيرة نهجاً يجوز وصفه بصدّامية إيرانية تجاهه، إن لم نقل إنها تفوق الصدامية الأصل. إقليم كردستان كان مرشحاً للضغط على طهران إذ يسحب عملياً من منطقة نفوذها الأهم، وللضغط على تركيا وفرملة اندفاعها في التنسيق مع موسكو وطهران. إلا أن إدارة ترامب حابت الحكومة العراقية التابعة لإيران، مثلما حابت من قبل الحشد الشعبي "التابع مباشرة لإيران" ودعمت معركته ضد داعش بدل أن تشترط لدعمها اقتصار الجهد العسكري على الجيش العراقي. في الواقع تبدو إدارة ترامب كأنها أعادت تسليم العراق كاملاً لطهران، في سيناريو مشابه لما فعلته الإدارة السابقة عندما سلمته لها من خلال ترجيح كفة المالكي على كفة إياد علاوي الذي فازت لائحته بالانتخابات العراقية آنذاك.

لبنانياً، من حيث انطلقت الشرارة الأخيرة، يصعب فهم التصعيد الأخير بعد سلسلة من التنازلات التي أتت بالصفقة الرئاسية وبرئاسة الحكومة. فمسلسل التنازلات لحساب حزب الله ومن خلفه إيران شهد انحداراً دراماتيكياً، حتى وصل إلى هيمنة الحزب فعلياً على القرار اللبناني، وإلى صمت الطبقة السياسية اللبنانية عن تدخل الحزب في سوريا. التفكير اليوم في استعادة تلك الخسائر لا قوة تسنده على الأرض، ولا ثقة لدى جمهور الأحزاب المناهضة لسيطرة حزب الله بأن الداعمين الخارجيين لن يخذلوه مجدداً، أي لا أفق الآن لحراك شعبي ضاغط على حزب الله وحلفائه على النحو الذي شهدناه إثر اغتيال الرئيس الحريري، وما هو راسخ في الأذهان ذلك التهاون الذي أودى بانتفاضة الاستقلال من داعميها ومن بعض قادتها.

ربما تكون مواجهة إيران أكثر مواجهة مطلوبة في العديد من دول المنطقة، ولو أتت قبل سنوات قليلة لنال أصحابها شعبية عارمة. المسألة ليست فقط في عامل التوقيت، مرة أخرى هي في انعدام الثقة، وإذا أخذنا المثال اللبناني نموذجاً ليس هناك ما يمنع الذين صحوا فجأة على أسطوانة "قطع أيدي إيران في المنطقة" إلى العودة إلى أسطوانة "أولوية السلم الأهلي والتضحية من أجله"!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها