الثلاثاء 2017/11/07

آخر تحديث: 12:31 (بيروت)

انتخابات مصر: الواقع أم الواجب؟

الثلاثاء 2017/11/07
increase حجم الخط decrease
قبل 12 عاماً، لم يكن من حق المصريين انتخاب رئيسهم. فمنذ إعلان الجمهورية في مصر في العام 1954، وعلى مدى أكثر من نصف قرن، كان الناخبون يقصدون مراكز الاقتراع للاستفتاء على المرشح الوحيد الذي يختاره البرلمان. لم يكن الأمر خوفاً من المنافسة. فجمال عبدالناصر لم يكن يخشى أن يخسر الانتخابات أمام منافسين، ولا حتى أنور السادات أو حسني مبارك، لا ثقة في جماهيريتهم فحسب، بل لاحتكارهم مؤسسات الدولة بالكامل، وغيرها. ولم يكن الأمر أيضاً مجرد توظيف لحيلة الخوف من المجهول، لإرغام الناخبين على التصويب بنَعَم. لكن المرشح الوحيد والأوحد، كان ضمانة لترسيخ منطق الرئيس الأبدي، المنزه عن المنافسة أو الأشباه. وغير تأليه الرئيس، الذي لا يمكن إلا الإيمان به بنَعم، أو الكفر به بِلا، فإن مجرد تخيل البدائل، وتصور السياسة بوجه عام، كان معطلاً بالكامل.

في نهاية العام 2004، كان المئات يتظاهرون بالقرب من ميدان التحرير، رافعين شعارات حركة كفاية: "لا للتمديد، لا للتوريث". كانت الشعارات فضفاضة، وأهداف الحركة مشوشة، وكذا كنت أنا أيضاً، مع غيرى من المتظاهرين الذين لم يتجاوز عددهم بضع مئات. كان هناك من يأمل في أن ينضم إلينا عشرات الآلاف من الغاضبين، فيسقط نظام مبارك. وكان البعض، وأنا منهم، لا يتعدى طموحهم تخفيف قبضة الأمن بإلغاء قانون الطوارئ، والإصلاح الدستوري، وإن لم تكن التفاصيل واضحة في أذهاننا. لكن ما كان بين غالبيتنا هو شعور بالواجب تجاه خوض المعركة ضد النظام، وبحد أدنى من التعويل على الواقع وحساباته المحبِطة.

كل الدلائل والوقائع كانت ضد الحراك، وكنا نعرف هذا، إلى أن أعلن مبارك، بشكل مفاجئ، في فبراير 2015، طرح تعديل على المادة 76 من الدستور، يسمح بانتخابات رئاسية تعددية مباشرة، للاستفتاء الشعبي. كان الأمر انتصاراً للاحتجاجات بالطبع، لكن الغالبية كانت محبَطة، فالتعديلات التي قطعت الطريق على مبرر الاحتجاج، تظل صورية، ما لم تُقدّم ضمانات لعميلة انتخابية نزيهة، وهذا ما كنا نعرف أنه ليس وارداً. لكن ربما كان الإحباط غير مبرر تماماً. فمبارك الذي أدرك أن تماسك صورة السلطوية تكمن في عنادها، ورفضها لتقديم التنازلات أياً كانت هامشيتها، قدم تنازلاً أخيراً، وربما بفعل ذلك كان للساخطين على حكمه، أن يطلبوا المزيد. فالتنازلات أصبحت ممكنة أو على الأقل يمكن تصورها.

كان على مبارك أن يخوض حملة انتخابية، أمام منافسين للمرة الأولى، وأن يظهر في برامج تلفزيونية ليتكلم عن نفسه وأسرته وحياته المهنية والعائلية، لاجتذاب تعاطف المشاهدين. هبط الرئيس من مرتبة الألوهية، إلى مصاف البشر وزمرتهم. أطلقت لجنة السياسة، حملة دعائية للرئيس، تشبه حملات "تجميل السياسة" الانتخابية في الغرب. خليط من الصور البراقة، وشعارات التسويق السلعية، والتركيز على المواصفات الشخصية وأنسنتها. فاز مبارك في النهاية، ووضع منافسة الأقرب، أيمن نور، في السجن، بعد الانتخابات مباشرة. لكن الهالة التي نُزعت عن الرئيس، وخيال البدائل الذي أصبح ممكناً ببعض المشقة، ما عاد ممكناً الرجوع عنهما، أو الوقوف في وجه انفجاراتهما التالية. ولم يُكتب لمبارك خوض انتخابات أخرى بعدها، ولا حتى أن يكمل مدته الرئاسية تلك.

أعلن خالد علي، أمس، نيته الترشح للانتخابات الرئاسية 2018، وقوبل الأمر بقليل الحماس، والكثير من اللغط واللامبالاة. وهناك ما يبرر التشكيك في جدوى خوض الانتخابات. فالثورة سُحقت، وخسائرها فادحة. والنظام، غير أنه نجح في إطباق قبضته على المؤسسات العامة، بما فيها القضاء والإعلام، فإن ظروفاً دولية وإقليمية شديدة الاضطراب، سمحت له أن يصبح لاعباً وشريكاً رئيسياً في ترتيبات المنطقة وتحالفاتها. وفي المقابل، فإن خالد علي، أو أي مرشح آخر يمكن للمعارضة أن تطرحه، لا يملك أياً من تلك الأدوات والمؤسسات والتمويلات والتحالفات المسخرة لمرشح السلطة.

المتحمسون لترشح علي، والراغبون في خوض المنافسة الانتخابية بشكل عام - وهم قليلون حتى الآن - يعتبرون أنه، ورغم أن المعركة تبدو محسومة بالفعل، فإن خوضها في حد ذاته لا يخلو من مكاسب: طرح بدائل يمكن المراهنة عليها في المستقبل، وانتهاز الفرصة لتطوير وترويج أفكار تحريرية ومشاريع للتغيير والإصلاح، واجتذاب البعض إلى العودة للاهتمام بالشأن العام، وتأسيس كوادر سياسية وثقلها في معمعة الحملة، وفتح أفق للأمل وتخيل البدائل كممكن، إن لم يكن اليوم، فهي على الأقل رهان المستقبل. وهذه كلها تبدو أسباباً مقنعة إلى حد كبير. لكن دروس الماضي أيضاً يمكن أن تضيف إليها. فعبد الفتاح السيسي، الذي رفض أن يقدم برنامجاً انتخابياً عندما ترشّح في المرة السابقة كرئيس الضرورة الذي استدعاه الشعب - في استعادة لتقاليد الرئيس الإله - ربما يجد نفسه مضطراً أن يهبط مرة أخرى إلى مصاف البشر، خصوصاً أن شعبيته تآكلت بشدة خلال العامين الماضيين. هكذا، يبدو إرغام السيسي على خوض معركة تنافسية، ولو صُورية، والشروع في حملة ترويجية تسبقها، مكسباً في حد ذاته.

لكن الأمر لا يتوقف عند حسابات المكاسب والخسارة. فكما أن "تجميل السياسة"، أي تحويلها إلى شأن جمالي معني بالصور المبهرجة والشعارات البراقة والأضواء الخاطفة للكاريزما، وإنتاجها وترويجها عبر حملات العلاقات العامة، هو تفريغ للسياسة من معناها، فإن عقلنة السياسة أو مَنطقَتها، أي جعلها موضوعاً للحسابات البراغماتية للـ"واقع" المفترض، وقياسه وتوقعاته، أثبتت أنها قصيرة المدى، وأسيرة النظر تحت قدميها. فهي، كما لم تنجح في توقع الثورة مثلاً، كانت مضلَّلة في شأن كل الانتخابات التي هزت نتائجها العالم خلال الأعوام القليلة الماضية.

لكن، وإن نحينا مسألتي الجمال والمنطق العقلاني، عن السياسة، فماذا يتبقى لنا؟ تظل السياسة سؤال الأخلاق، بامتياز، عن العدالة ووسائلها، الحرية ومداها وقيودها، الحق ومعناه، وترجمة كل هذا وغيره إلى قواعد يومية ومؤسسية لضمانها ومسألتها في الوقت نفسه. تستدعى أخلاقية السياسة، منطق الواجب، كمنطق يضحي أكثر إلحاحاً في ظل نظام قمعي ووحشي، ضحاياه ألوف القتلى، وملايين المعدمين، وتكتظ سجونه بألوف أخرى منهم. واجب، لا يحتمل ثقله الحياد أو اللامبالاة، ويفرض خوض كل معركة ممكنة ضد النظام، مهما بدت هامشية، وبكل حكمة وعقلانية.

لا يعنى هذا كله بالطبع أن انتخاب مرشح بعينه، أو خوض الانتخابات الرئاسية المقبلة، واجب أخلاقي. لكنه يعنى أن الحكم على دخول تلك المعركة، وغير ذلك من أسئلة السياسة، لا يجب أن يقتصر على منطق "الواقع" وحسابات المكسب والخسارة، قصيرة النظر والمضللة في أحيان كثيرة. بل يجب أن تُؤسس على أسئلة الأخلاق والواجب، والتي تفتح، في أحيان كثيرة، أفقاً للمستقبل، لم يكن تصوره ممكناً في الماضي.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها