الأحد 2017/11/05

آخر تحديث: 17:23 (بيروت)

سوريا، وتجربة ألمانيا الغربية

الأحد 2017/11/05
increase حجم الخط decrease

تشبه سوريا هذه الأيام، في بعض الجوانب، حالة ألمانيا في السنة الأخيرة من الحرب العالمية الثانية. وتوحي الكثير من المشاهدات في الساحة السورية، أن الأخيرة قد تأخذ مسارات تشابه التجربة الألمانية تحديداً، في السنوات الأربع التي تلت الحرب العالمية. لكن عنصراً رئيسياً ميّز التجربة في ألمانيا الغربية، ذاك الذي اندلعت من أجله الثورة السورية، ما يزال مفتقداً في الحالة السورية الراهنة.


فمنذ إنزال النورماندي الشهير، على شواطئ فرنسا، في حزيران 1944، دخلت العلاقة التحالفية بين الاتحاد السوفيتي من جهة، وبين الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، من جهة أخرى، مناحٍ تنافسية، بالتزامن مع تزايد مؤشرات الانهيار المرتقب لألمانيا النازية.


وخلال سنة، حتى أيار 1945، سجل المؤرخون عشرات الأمثلة على حالة التنافس بين السوفيت والأمريكيين والبريطانيين، وفي أوساط التحالف الأمريكي – البريطاني، أيضاً. كانت دوافع التنافس، السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأرض الألمانية، وسعي كل طرف لفرض رؤيته على مستقبل الكيان الألماني.


تلك الحالة التنافسية، تميّز اليوم العلاقة بين الأمريكيين والروس، كلما اقتربت اللحظة الأخيرة لإعلان نهاية "داعش"، على التراب السوري. وهي حالة تمتد إلى أوساط الحلفاء في كل طرف. فالحالة التنافسية تلك، يمكن التقاط مؤشراتها الواضحة في العلاقة الروسية – الإيرانية على الأراضي السورية.


تلك الحالة التنافسية بين الحلفاء في ألمانيا، التي تحولت لاحقاً إلى صراع بين السوفيت من جهة، وبين الغربيين من جهة أخرى، انتهت إلى تقسيم ألمانيا. وبقي التراب الألماني مقسماً لصالح قوى احتلال عسكري مباشر، أربع سنوات بعد الحرب. وكانت هناك قوات لست دول على الأقل، تتقاسم ذلك التراب. وفي الشطر الغربي من ألمانيا، كانت فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، تحتفظ كل منها، بمنطقة نفوذ ميداني خاصة بها. وفي الشطر الشرقي، أخذ السوفيت الحصة الأكبر، بينما مُنحت بولندا، الحليف المقرب للسوفيت حينها، حصة خاصة بها من الأراضي الألمانية.


واليوم في سوريا، يعتقد الكثيرون من المراقبين أن مصير البلاد نحو التقسيم. ونستطيع هذه الأيام أن نحدد بصور تقريبية، مساحات نفوذ كل طرف مشارك في الصراع على التراب السوري، بدءاً بالأمريكيين، مروراً بالروس والإيرانيين، والأتراك. وكذلك، الأردنيين.


في ألمانيا، بعد الحرب. كانت هناك رغبة سوفيتية – أمريكية، في إيجاد تصور مشترك لألمانيا موحدة. لكن رغبة كل طرف في جذب مستقبل ألمانيا، إلى قبضته، أدت إلى فشل كل محاولات التفاهم، وانتهى الأمر إلى تقسيم مُرسّم، ومعترف به دولياً، عام 1949.


واليوم في سوريا، توجد رغبة روسية – أمريكية في الاتفاق حول مستقبل سوريا. لكن تلك الرغبة أضعف من أطماع كل طرف في ترتيب المشهد بما يخدم مصالحه المستقبلية في هذه البقعة الاستراتيجية من الشرق الأوسط. ومن المتوقع أن تتصاعد محاولات التفاهم بعد إعلان نهاية "داعش"، التي باتت متوقعة قبل نهاية العام الجاري. وقد يكون العام القادم، عام المبادرات الكبرى، لترتيب مستقبل سوريا. وقد تفشل كل تلك المبادرات، وفق ما تُوحي المؤشرات الراهنة، باتجاه إبقاء الواقع الراهن، وترسيمه.


بعد التقسيم، عاشت ألمانيا حالة تنافسية، بين شرقها وغربها، كان كل طرف فيها، بإشراف الأوصياء عليه، يستهدف تحقيق أكبر قبول ممكن في أوساط الرأي العام الألماني، وإثبات النجاعة الأكبر لتجربته. لكن تجربة ألمانيا الغربية تميزت بخصوصية، افتقدتها تجربة نظيرتها في الشرق. ففي السنوات الأربع التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية، وقبل ترسيم التقسيم بشكل نهائي، كان الشطر الغربي من ألمانيا، المقسم بين قوات احتلال أمريكية وفرنسية وبريطانية، والمفتقد لحكومة وطنية تديره، يشهد عملية إعمار محلية نشطة، بقيادة إدارات ذاتية. حيث كانت كل مدينة أو بلدة صغيرة، تدير نفسها بنفسها، وتشتق سبيلها للحياة وإعادة الإعمار، بجهودها الذاتية، ووفق ظروفها الخاصة.


وبخلاف البروباغندا الشائعة، لم يكن مشروع مارشال نقطة البداية في إعادة إعمار ألمانيا الغربية. فسكان الشطر الغربي من ألمانيا نظموا أنفسهم، بجهودهم المحلية. ولاحقاً، حينما تأسست الدولة الألمانية الغربية، كان على حكومتها مراعاة الاستقلالية وخبرات الإدارة المحلية التي اكتسبها السكان، خلال 4 سنوات. فكانت ألمانيا الغربية، فيدرالية. وتعززت لدى جمهورها، وبإقرار من نخبتها الحاكمة، نزعة الإدارة الذاتية لشؤونهم. وبذلك، تشكلت تجربة من الديمقراطية المحلية، سرعان ما ميزت ألمانيا الغربية في العقود التالية، بالتزامن مع نهضتها الاقتصادية، التي وُصفت بالمعجزة، فكانت إغراءً هائلاً لجمهور ألمانيا الشرقية، لم تفلح كل محاولات الاتحاد السوفيتي، في لجمه. وانتهى الأمر حينما تفاقم ذلك الإغراء، وتحول إلى ضغط جماهيري هائل، وصل ذروته بانهيار جدار برلين، وتوحيد الألمانيتين، بناء على التجربة الغربية.


بدايات هذا المسار، الذي خاضته ألمانيا الغربية، يمكن لحظه في بعض المناطق السورية التي لا تخضع لنظام الأسد. حيث المجالس المحلية تدير المشهد، بعيداً عن أي قوة قادرة على فرض سيطرة شمولية على تلك المناطق. ويمكن تسجيل أدلة على محاولات إعادة إعمار محلية، بدأت تنشط مع الهدوء الذي رافق اتفاقات خفض التصعيد.


وهي تجربة لحظها بعض المراقبين في الغرب، مما دفع خبراء إلى تشجيع الدول الغربية على دعم هذه التجربة، على أن تكون إعادة الإعمار في هذه المناطق، بدلاً من أن تكون بالتفاهم مع نظام الأسد، الخاضع للوصاية الإيرانية – الروسية.


هذا المسار، الذي كانت بداياته في ألمانيا الغربية، متواضعة وغير ملحوظة حينها، والتي تُلحظ اليوم في الحالة السورية، كُلل بتجربة ديمقراطية محلية أثمرت نموذج حكم شكل إغراءً لكل الجمهور الألماني. لكن في الحالة السورية، يبقى عنصر مفتقد، وهو ضعف قوة البيئة المحلية، التي أفرزت المجالس التي تديرها، في مواجهة مشاريع قوى مسلحة إسلامية وغير إسلامية. وهي سمة لم تكن قائمة في الحالة الألمانية. فالعنصر المسلح غاب عن التجربة الألمانية الغربية، وتمتع الشارع الألماني حينها، بأريحية عالية لإدارة شؤونه الخاصة، حسب ظروف كل مدينة وبلدة.


في الحالة السورية الراهنة، نواجه العنصر المسلح بصورة صارخة، في مناطق سيطرة النظام، وكذلك في تلك المناطق الخارجة عن سيطرته. وإن كان العنصر المسلح في الأخيرة، أخفت، لكنه قائم بقوة، ويسعى بشكل حثيث لفرض مشاريعه. فها هي حكومة "إنقاذ" إدلبية، تمثل مشروع "النصرة" بصورة ملطفة. فيما تتصارع الفصائل المسلحة المدرجة في "درع الفرات" على العوائد، ولا يردعها إلا الضغط التركي. في الوسط، شمال حمص، وكذلك في الجنوب، تبدو مشاريع المسلحين أخف من الحالة في الشمال، لكنها قائمة، ونفوذهم فاقع. وفي المناطق الخاضعة لسيطرة "قوات سوريا الديمقراطية"، يفرض العنصر المسلح مشروعه بشكل شمولي حازم.


لكن ما سبق، لا يعني أن التجربة الألمانية الغربية، التي أسست لديمقراطية محلية ناجعة، هي تجربة مستبعدة في المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد. ذلك أن مؤشرات الصراع بين المجتمعات المحلية، وبين مشاريع القوى المسلحة التي تسعى لفرض نفسها، ظاهرة للعيان. ومن حين لآخر، تخضع القوى المسلحة، بشكل جلّي، للإرادة المحلية المدنية.


أما في الشطر الخاضع لنظام الأسد، الذي يشكل المساحة الكبرى من سوريا، فمن المرجح أننا سنشهد ألمانيا شرقية، بشموليتها وجهازها الأمني ذي السطوة المطلقة، وحالة التنظيم الحكومي المركزي، التي توفر الأمن، وحالة من الكفاف. لكن إغراء التجارب التي توفر الحرية والديمقراطية المحلية، سيظل يداعب سكان تلك المناطق.


وفي الشطر الخاضع لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية، لا يبدو أن المشهد سيختلف كثيراً عن حالة الشطر الخاضع لنظام الأسد. فالعقلية واحدة تقريباً، شمولية وأمنية. ربما باستثناء الحاجة لتلطيف الأداء، بغية حيازة دعم أمريكي مستقر.


في نهاية المطاف، رغم أن مستقبل الحالة السورية الراهنة، مفتوح على كل الاحتمالات، إلا أن الكثير من بصمات التاريخ الألماني بعد الحرب العالمية الثانية، تظهر جلية في الميدان السوري. الألمان في الشطر الغربي حققوا معجزتهم دون أن يدروا حينها، أنهم في الطريق إلى معجزة. كانت البدايات متواضعة جداً. مجرد إزالة للأنقاض، وتأهيل مساكن، وترميم أخرى، وتنظيم للحياة المحلية، بعيداً عن أي سطوةٍ لمشروع مستبد. في الحالة السورية، من غير المستبعد أن تكون البدايات متواضعة، والخواتيم كبيرة.





increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها