الخميس 2017/11/30

آخر تحديث: 15:00 (بيروت)

أميركا المليونيرات

الخميس 2017/11/30
أميركا المليونيرات
باتت أميركا تضم قرابة 15.4 مليون مليونير (رويترز)
increase حجم الخط decrease
تكاد الأرقام تنطق. بل أنّ مؤسّسة رأسماليّة معولمة مثل بنك "كريدي سويس"، لم تملك سوى الإقرار بالتناقضات المذهلة، بين أرقام الثروات المليونيّة والبليونيّة من جهة، وأرقام الدخل الفردي في "بلاد العم سام". ماذا لو أضيف إلى أرقام البنك السويسري الشهير، رقماً أوردته وكالة "رويترز" قبل أيام، عن أربعة ملايين شاب مشرّد في أرض "الحلم الأميركي"؟ ماذا عن تأثير تلك التفاوتات في مسار الديموقراطية، وفي ركن مكين لها، وهو أمر لم تتوقف مؤسّسة مثل "مجلس العلاقات الخارجيّة" عن تناوله منذ الأزمة الاقتصادية في 2008، بل أفردت له غير غلاف لمجلتها "فورين آفيرز" الذائعة الصيت؟

الأرجح أن هناك رقماً يستطيع الرئيس المُغرّد، دونالد ترامب، التغرغر به طويلاً: باتت أميركا تضم قرابة 15.4 مليون مليونير (بعد إضافة 1.1 مليوناً خلال السنة الأولى من عهد ترامب)؟ ما يعني أن أميركيّا واحدا،ً من بين كل عشرين، هو مليونير! وأدرج تقرير "كريدي سويس"، الرقم، ضمن مؤشّرات قرب التعافي ماليّاً من أزمة 2008، مع التشديد على أن عدد أصحاب الملايين أميركياً بات أعلى بقرابة 30% عما كانه في 2006. إذ لاحظ التقرير عينه أنّ البلدان كلّها، عدا الصين، شهدت انخفاضاً حاداً في ثرواتها، بل إن الانخفاض ما زال مستمراً منذ 2007.

وقبل أن يمعن ترامب في التفاخر، سجّل التقرير نفسه أن أميركا بلد فقير تماماً، من ناحية معدلات الدخل الفردي. وفي مقابل تصدّرها لائحة أصحاب الثروات الطائلة (43% من أصحاب الملايين)، حلّت أميركا في مرتبة متدنيّة (المرتبة 21) في لائحة معدل الدخل الفردي. وتشاركت تلك المرتبة مع النمسا واليونان (صاحبة الأزمة الاقتصادية المستعصية في الاتحاد الأوروبي)، إذ يقارب معدل الدخل الفردي فيها 56 ألف دولار سنويّاً.

في المقابل، حلّت سويسرا في المرتبة الأولى لجهة دخل الفرد سنويّاً (229 ألف دولار)، ثم أستراليا (195 ألف دولار)، بلجيكا (161 ألف دولار) ونيوزيلندا (147 ألف دولار) واليابان (123 ألف دولار).

نعم. أميركا المليونيرات، هي أيضاً تلك التي يتساوى أفرادها مع اليونان الجنوب أوروبيّة، والغارقة في أزمة اقتصادية مستفحلة لم تفلح مبادرات البنك الدولي، ولا مبادرات الاتحاد الأوروبي، في إخراجها منها! وفي اليونان، أدى الأمر إلى وصول اليسار وحزب "سيريزا" إلى السلطة. فما علاقة التفاوت الفردي بوصول ترامب إلى الرئاسة، بل بذلك الشعور واسع الانتشار بانقسام ضخم في المجتمع الأميركي، وبتهديد جدّي للديموقراطية فيه؟ ألم يكن جزءاً من فوز ترامب ذلك التصويت الكثيف الذي حازه في ما عُرِف بإسم "ولايات الصدأ"؟ تذكيراً، يشير المصطلح إلى ولايات كانت مزدهرة في زمن صعود التصنيع الأميركي خلال معظم القرن العشرين، ثم انقلب حالها في القرن الـ21، مع عولمة قادتها أميركا لكنها تضمنت هجرة صناعات كثيرة إلى بلدان عالمثالثيّة كالهند وفيتنام والأرجنتين وتشيلي و...الصين بالطبع! إذاً، صعد ترامب على صهوة فقر أميركي انتشر في ولايات، بعضها نقل البندقيّة من كتف إلى كتف، على غرار ولاية بنسلفانيا آنذاك.

الأرجح أن تلك الأسئلة ربما وجدت سنداً آخر لها، في رقم تداولته وسائل الإعلام أخيراً. إذ أوردت وكالة "رويترز" أن عدد الشباب والأطفال المشردين في أميركا وصل إلى 4.2 مليون في 2017، وفق دراسة موسّعة لجامعة شيكاغو. وأحصت الدراسة ما يزيد على 700 ألف مراهق (13-17 عاماً)، من دون مأوى ثابت، ومثلهم قرابة 3.5 ملايين بالغ شاب (18-25 عاماً). وأشار شباب كثر إلى أنهم أصبحوا في حال تشرّد للمرة الأولى، ما يعني أن الأمر يتعلّق بمشكلة تتفاقم باستمرار. وشدّدت الدراسة على التساوي في نسب التشرّد بين المدن والبلدات الريفيّة، مع انخفاض بسيط للتشرد في الأخيرة.

وفي منحىً يدعو إلى طول تفكّر، وثّقت الدراسة أن معظم التشرّد يعانيه السود، وأصحاب الأصول اللاتينيّة، ومثليو الجنس، وهم جزء أساس من المعسكر المناهض لرئاسة ترامب!

وربما يصلح الأمر عينه مؤشّراً على أثر آخر لتفاوت الدخول في المؤسّسة السياسية الأميركيّة، تمثّل في صعود نجم "الاشتراكي" بيرني ساندرز في انتخابات الرئاسة 2016. إذ بات معروفاً، عبر وثائق "ويكيليكس"، أن قيادة الحزب الديموقراطي تواطأت مع هيلاري كلينتون كي تصير هي مرشحة ذلك الحزب، فيما كانت غالبيّة كبيرة من شبيبة الحزب الديموقراطي تؤيّد ذلك العجوز المنادي بتحوّل أميركا إلى اشتراكيّة- ليبراليّة على طريقة البلدان الاسكندنافيّة، خصوصاً سويسرا التي وضعها  تقرير "كريدي سويس" (وهذه مفارقة ملفتة) على رأس الدول التي لا تعاني تفاوتاً في مداخيل الأفراد. وفي السياق عينه، فإن غير محلّل أميركي مال إلى الربط بين ظاهرة ساندرز وتأثير تفاوت المداخيل، في شباب "بلاد العم سام".

فهل هي مجرد مصادفة، أم أنّ وراء الأكمّة ما وراءها؟ هل يبقى السؤال معلّقاً أم يلقى إجابة عنه في انتخابات الكونغرس في 2018، أو الرئاسة في 2020؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها