"لا يجوز أن يكون الاسم أعجمياً أو مركباً أو مخالفاً للنظام العام أو لأحكام الشرائع السماوية"...
في يونيو الماضي، أدرجت لجنة الاقتراحات والشكاوى بمجلس النواب المصري، على جدول أعمال المجلس، اقتراحاً من النائب بدير عبد العزيز، بتجريم الأسماء الأجنبية للمواليد. ودافع النائب عن اقتراحه والذي يعاقب المخالفين بالحبس مدة تصل إلى 6 أشهر، بقوله إن الأسماء الأجنبية من شأنها تهديد الهوية الوطنية، وزعزعة الانتماء الوطني لحامليها. وفيما وجد عبد العزيز في قانونه المقترح، وسيلة للرجوع بالمجتمع إلى الأسماء العربية والإسلامية الأصيلة، فإنه أكد أن القانون سيطبق على المسلمين فقط، متيحاً للأقباط حرية اختيار أسماء أعجمية لمواليدهم، أو بمعني آخر مضيفاً طبقة أخرى من طبقات التمييز القانوني بين المصريين بناء على أديانهم. لكن، وإن تم في النهاية سحب القانون الذي كان معنياً بالتأكيد على دور الدولة في ضبط الهوية الوطنية والأصالة وعلى أن تلك الهوية تتعلق بالمسلمين حصراً، فلا ينبغي الاكتفاء باعتباره من باب النوادر والطرائف.
ففي مطلع الشهر الجاري، أحال رئيس مجلس النواب، مقترح قانون إلى لجان المجلس المتخصصة للدراسة، قدمه 60 نائباً ويجرّم إهانة الشخصيات التاريخية. لا يبعد كثيراً منطق مقترح القانون، الذي يعاقب مخالفيه بالحبس لمدة تصل إلى 5 سنوات، عن منطق قانون الأسماء الأعجمية. فبحسب الدكتور عمرو حمروش، أمين سر لجنة الشؤون الدينية والأوقاف بالمجلس، تسعى "قوى الشر" لإثارة الجدل حول الشخصيات والرموز التاريخية "وهو أمر خطر، وله آثار سلبية على المجتمع"، ويسبب في "زعزعة الثقة، ونشر الإحباط". ويواجه مقدمو اقتراح القانون، هم أيضاً، خطراً على المجتمع، وهويته، وثوابته، وماضيه، ما يستدعي تدخل الدولة بقوة لمواجهته، خصوصاً أنه مدبّر بفعل قوى متربصة بالوطن.
ولا تقتصر الفزعة لحماية الرموز والثوابت، على السلطة التشريعية ورجالها. فالزوبعة التي أثارتها نكتة عابرة للمطربة شيرين عبد الوهاب، سخرت فيها من نهر النيل، أي من أحد "الثوابت الوطنية" ورموزها الجغرافية، استدعت تدخل نقابة الموسيقيين، بإيقاف صاحبتها عن العمل، وتحويلها للتحقيق، فيما استدعتها النيابة العامة للمثول أمامها، للسبب نفسه. وبالتزامن مع حملة الدفاع عن شرف النيل وسمعته، التي شنتها وسائل الإعلام، كان مجمع اللغة العربية، المعروف بمجمع الخالدين، قد أحال إلى البرلمان المصري، مقترحاً بقانون لحماية اللغة العربية المهددة. وغير أن المقترح يجرّم استخدام ألفاظ أعجمية في تسمية المؤسسات والمنشآت الخاصة والتجارية، فإنه يعاقب بالغرامة والسجن، ناشري المطبوعات التي تستخدم اللغة العامية، في غير مواضيع الأدب، بل ويذهب في أحد مواده إلى معاقبة مسؤولي الصحف والمؤسسات الإعلامية، التي تتقاعس عن المراجعة اللغوية لمطبوعاتها. أي أنه، ببساطة، يمكن لخطأ إملائي أو نحوي، أن يكون كافياً لحبس كاتب أو رئيس تحرير جريدة.
لا يبدو من باب الصدفة، تضامن المشرعين، والموسيقيين واللغويين والجهات التنفيذية ووسائل الإعلام، في تلك الحملات المتزامنة للدفاع عن الثوابت والرموز الوطنية والهوياتية. فشعور بالخطر والتهديد، في ما يتعلق بمفردات البنية الإيديولوجية للدولة المصرية، بما فيها الديني والتاريخي واللغوي والجغرافي، يبدو داهماً، اليوم، بالنسبة إلى كثر في قمة السلطة السياسية، وبين النخب الثقافية. فالحشد الجماهيري، على خطوط مواجهة الأعداء الداخليين والخارجيين، أو وراء مشاريع قومية ضخمة، أثبت أنه استراتيجية ناجحة، لكن قصيرة الأجل. فماذا بعد تراجع التهديد الذي كان يفترض أن جماعة "الإخوان" تمثله على الوطن، مثلاً، وبعد افتتاح مشروع قناة السويس الجديدة؟ بالطبع ما زال استغلال خطر الإرهاب مستمراً، وهناك مشروع العاصمة الجديدة، ومزارع الاستزراع السمكي، وغيرها. لكن هذا كله لا يغني عن إيديولوجيا متماسكة لشرعنة نظام الحكم في المدى الطويل. ولا يمتلك النظام سوى نسخة ركيكة وتلفيقية مما ورثه عن سابقيه، لم تعد مقنعة لأحد، بينما المؤسسات الإيديولوجية للدولة، ممثلةً في وسائل الإعلام وإدارات التعليم، والمؤسسات الدينية والثقافية، عاجزة عن الاستمرار في فرض خطابها، كما في الماضي، أو تعديله ليوائم المتغيرات من حولها، بفعل تراجع كفاءتها.
تواجه الدولة ونخبها، معضلتها الأيديولوجية، بأدوات الإرغام والتهديد بالسجن، كمحاولة أخيرة للحفاظ على هيمنة، يفترض أن تتم عبر التأهيل والتعليم والرمزي والضمني والاحتفالي، لا القسر والخوف. وتستمر في محاولة شن حرب شاملة على أعداء متخيلين، يستهدفون أشباح الماضي، وسمعة الأنهار، وكرامة قواعد الإملاء، وغيرها. حرب لا تكشف سوى عن يأس أصحابها، وبؤسهم.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها