السبت 2017/10/07

آخر تحديث: 08:30 (بيروت)

الحب والجزمة

السبت 2017/10/07
increase حجم الخط decrease

 الألمان يحترمون المشاة، وقوانين المرور تفضل الماشي على سائق السيارة. عندما تصل أيها السائق في شوارع ألمانيا الاتحادية، إلى معابر المشاة، يجب أن تقف حداداً على حُمر الوحش التي التصق جلدها بالأرض؛ فألوان منطقة مرور المشاة اسمها الزيبرا، أي حمار الوحش. وأعرف سورياً رسب في فحص سياقة السيارة ثلاث مرات، مع أن شهادته القديمة السورية عمومية، بسبب عدم احترامه لحرمة جلد حمار الوحش الذي دبغت به الأرض دبغاً.

وأهم الأمور التي لفتت المهاجرين في بلاد الأنصار الألمان، هي كمية الدهان التي تلّون بها الطرقات. وطرقاتها أعقد من حرب الشطرنج، والماشي له فضل على الراكب، على عكس بلادي التي لها حبي وفؤادي. سألت شريكي ماتي المهندس في الشركة الفنلندية، الذي كان يعمل في سوريا، عن رأيه في الشعب السوري، قال: السائقون متوحشون.

وقال برثاء: المشاة في سوريا ليس لهم حقوق.

وتابع: وليس لهم أرصفة.

قلت له: الراكبون، ومالكو السيارات في بلدتي، التي تمزقت فيها سروايلي، يتهمون المشاة بأنهم يمشون في منتصف الشارع، أي أنهم يعتدون على مناطق سلطانهم، وهذا صحيح، السبب هو أنّ الأرصفة وعرة، ومليئة بحفر تصلح لاستئناس الفيلة، وفي الشتاء قد تدعس على بلاطة، فتقذف في وجهك رشقة من الوحل كامنة، وهكذا يرى الماشي أنّ المشي في الشارع والتعرض لخطر الدعس من السيارات، أرحم من مصير جرعة الوحل.

الصديق عائض القرني يحب الوصايا، ولا يمر عليه يوم إلا ويحضّ المسلمين على رياضة المشي السهلة، ويقول في تغريدة: لا تدع المشي أبداً، فإنه يجدد لك الدورة الدموية، ويعقبه انشراح في الصدر، خاصة إذا قرنت المشي بالتسبيح. الشعب المصري أسدى هذه النصيحة للرئيس مبارك أيام ثورة يناير:

“ارحل يعني امشِ هو أنت ما بتفهمش"

 وأبدى مثقفون مصريون، اُشربوا في قلوبهم العجل، حزنهم على صورة الضابط المصري بعد ثورة يناير، وقالوا: الثورة عرضت هيبته للزفت، وقد أعادها العجل، فمشى بسيارته على السجاد الأحمر. فصار حال الشعب حال حمار الزيبرا الذي التصق جلده بالأرض.

 في مرحلة الصبا والشباب، كنا نقضي ساعات طوالاً على باب الفرن، منتظرين غودو، بينما سائقو السيارات لا ينتظرون، لأنهم مستعجلون، ولهم حظوة وشرف ورتبة، والفرّان يشفق عليهم، أما المشاة فلا بواكي لهم في بلادي. ألمانيا أكبر مصنع سيارات في العالم، وكل الناس لديهم سيارات حتى الفقراء منهم، ومشكلة ألمانيا في ملتي واعتقادي، هي "الباركينغ"، إذ يصعب الحصول على مكان لرقاد السيارات.

 لي زميل سوري، كان يتأخر في مغادرة العمل، ويلومني بسبب سرعتي في الهروب بعد انتهاء  موعد انتهاء العمل، فقلت له: إن فيك أمراً أحبه، وهو الأناة، فكشف لي سرَّ أناته، وقال: أي أناة يا صاحب السجن الكبير، لقد بلغت من العمر عتياً، وأنا أعرج بنصف دين وستة أضلاع، وزميلتي لميس هي السبب!

قلت: هل تنوي خطبتها حتى ترمم لك دينك؟

باح لي بالسر المكنون همساً: لا... هي من غير طائفتي، ولن تقبل بي زوجاً. أحبُّ مشيتها، مشي السحابة لا ريث ولا عجل. لميس مشيتها مشي القطاة، وأنا أنتظرها لتخرج فأتبع سبيلها عجباً.

 كانت لميس من طائفة الخيالة مالكي السيارات، وكان أبو الخير من طائفة الراجلين المشاة.

وكان أن اصطنعت مشاغل، وتأخرت، وأحببت من بعد بيان عذرهِ الأناة، وليس في كل تأخيرة خيرة، كما يقال، ففي بعضها شرُّ، مثل الثورة، والإصلاح خير من الثورة، والفيدرالية خير من الاستقلال، والوحدة بين المشاة والخيالة خيرٌ من الاثنين. وتأكدت من صدق دعواه، وكان أن انتهت لميس من جمع رحيق الأزهار، ونهضت للمغادرة، فحان موعد مغادرتنا، ومشت ترقص السماح، وكأنها تمشي على حبل في السيرك مشدود إلى قمتي جبل، بينهما واد سحيق. أقريت لصديقي مؤمناً: مشيتها ساحرة، إنها تمشي مثل عارضات الأزياء، على أي بحر تمشي هذه الهيفاء؟

فقال: بحرها ليس من بحور الفراهيدي، إنها تمشي على بحر مرمرة.

ودقَّ على قلبه المضرج بالشوق، كما دقّ أحمد شوقي بشوقه، يوماً على باب الحرية الحمراء.

ووجدتني أقول مع المتنبي، وأنا أتملى مشيتها على نعلين مرتفعين كناطحتي سحاب، وتنتهيان من جهة الكعب، بنصلين مهنّدين:

ألا كُلُّ مَاشِيَةِ الخيزلى-  فِدَى كلِّ ماشِيَةِ الهَيْذَبَى.

ولم أكن أعلم الغيب، وبأنه سيأتي يوم أفضّل فيه مثل المتنبي  الخيل القوية سيراً، على عشق النساء، والتغزل بمحاسن مشية الخيزلى، المتفككة أوطاناً ومدناً وفيدراليات.

ومشت لميس تميس الخيزلى، كأنما تمشي على شوك القتاد. هي تمشي، ونحن نتعثر، كأنّ طبقات الأرض الجيولوجية تنزلق من تحت أقدامنا كألواح البللور، حتى كدنا أن نتَدَهْدَه في الوادي السحيق. وبعد أن وصلنا بيوتنا مثخنين بالجراحات، وجدنا أنفسنا على عكس هذا الحال: وَبِتْنَا نُقَبّلُ أسْيَافَنَا - وَنَمْسَحُهَا من دِماءِ العِدَى، وذلك من غير خيل ولا ركاب.

لابد من شجاعة للاعتراف، أن بلادي، التي لها حبي وفؤادي، تحترم أمراً واحداً في هذا الوطن المعطاء، وهو النعل، حتى إنّ أفضل مكتبات البلد ومقاهيها، تحولت إلى محلات لبيع الأحذية، فهي في هذه الأيام والأيام السابقات، قُدّس الحذاء، وفُضّل النعل العسكري طويل الرقبة تفضيلاً.

ودليل تقديس النعال، أن العسكر يقتحمون المساجد، وهي بيوت الله، بأبواط العسكر.  البوط في سوريا أقدس من المساجد، التي يذكر فيها اسم الرئيس بالغدو والآصال.

كل أهالي الضحايا يصفون أبناءهم القتلى بأنهم: فداءً "لصباط" الرئيس.

ندّد المرحوم البوطي بمنتعلي المساجد، ولم يندد بمنتعلي الأوطان والشعوب، وهو تنديد يختلف عن تنديد أدونيس بثورة المساجد، وإن التقيا صباً في خليج الغاية النبيلة الوبيلة. ودليلي الثاني على حلول النعل محل العمامة، هو أن الممثلين والفنانين، وصغار الكسبة، وكبار الكذبة، جميعاً يظهرون على التلفزيون الرسمي، ويقبّلون البوط قبلات لها صدى وزفير، وكأنه إله مصنوع من الشكولاتة. وإن كان لا بد من القبلة، فقدمُ الجندي المسكين، الذي يخافر على الجبهات منذ سنوات سبع، أولى بالتقبيل من حذائه، وبطنه أولى بالشبع، وجبينه أولى باللثم.

تصور عزيزي القارئ، لو أن "أجمل وجه على الشاشة السورية"، تقبّل جندياً، جائعاً، محروماً، مشتاقا،ً مرعوباً، على جبينه، بدلاً من تقبيل بوطه.

لو تأخذ أحدهم بالأحضان، لذاق معنى شعار: الوطن حضن.


 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب