الثلاثاء 2017/10/03

آخر تحديث: 08:09 (بيروت)

حتى أنت يا أردوغان!

الثلاثاء 2017/10/03
increase حجم الخط decrease

تنقل صحيفة "العربي الجديد" عن أردوغان، في اجتماع لقادة حزبه في ولاية أرضروم، قوله: "الآن تتواجد جميع دول الجوار، إيران والحكومة المركزية والطرف السوري في حالة تواصل مستمر، والجميع جاهز لأية تطورات سلبية، لن نسمح لهذه التطورات التي رسمت خلالها إدارة الإقليم خريطة على هواها... لا يمكن أن نقبل باستفتاء أُجريَ في إقليم قام بحرق سندات الملكية والنفوس وربط بعض المناطق بنفسه بالقوة ومن دون أي قانون".

انتهى الاقتباس، وبيت القصيد فيه ليس موقف أردوغان من القضية الكردية، فهذا معلوم سلفاً. وإنما لأنها المرة الأولى التي يشير فيها مواربة إلى وجود تواصل مع سلطة بشار، مع اعتراف موارب أيضاً بشرعيتها من خلال تسميتها بالطرف السوري. قبل ذلك كان العديد من التقارير الإعلامية قد تحدث عن وجود اتصالات بين حكم أردوغان وسلطة الأسد على مستوى الاستخبارات، من دون تكذيب تركي واضح، أو تفنيد دقيق للمعلومات الواردة في التقارير، ولدور الشخصيات المقربة من أردوغان الوارد ذكرها.

السلطان، صاحب تصريحات من عيار "حماة خط أحمر" أو مقولات من نوع تشبيه العلاقة بين اللاجئين السوريين والأتراك بـ"المهاجرين والأنصار"، تراجعت طموحاته وسياسته إلى إفشال مخططات حزب العمال الكردستاني في سوريا والتصدي لطموحات إقليم كردستان في العراق. وإفشال تلك المخططات والطموحات يمر في سوريا عبر القبول بالسياسة الروسية، وفي العراق عبر التنسيق التام مع طهران بصفتها راعية الطغمتين الحاكمتين في سوريا والعراق، ولا يخفى أن موسكو وطهران كانتا تشترطان عليه الدخول في اتصالات مباشرة مع سلطة الأسد من أجل استعادة التنسيق بين ما يُسمى "دول الجوار العراقي"، وهي التسمية الرمزية للتنسيق الأمني المشترك في ما يخص مجمل القضايا الكردية في الدول الأربع.

لا تغيب عن بال أردوغان، أو أي مسؤول تركي سابق وحالي، تلك العلاقة الوثيقة التي ربطت حزب العمال التركي وفرعه السوري بحكم الملالي أو بتنظيم الأسد. وفي مناسبة الثورة السورية عادت تلك العلاقة القديمة إلى حيز الاستخدام المباشر، فأصبح الفرع السوري بمساندة تنظيم الأسد قوةَ الأمر الواقع في مناطق الوجود الكردي، وعادت قيادات الحزب في جبال قنديل إلى سياسة التصعيد مع حكومة أردوغان، حتى بخلاف التوجهات الأخيرة للقائد التاريخي للحزب عبدالله أوجلان الموجود قيد الاعتقال. هذا بالطبع لا يبرر إطلاقاً الرد التركي الذي أتى باستخدام العنف المفرط داخلياً، أو التلويح باستخدامه خارجياً، مع غياب استراتيجية سياسية للتعامل مع قضية تعتبرها أنقرة من أهم ما يمس أمنها القومي. ولعل أسوأ ما في غياب مثل هذه الاستراتيجية سرعة الوقوع تحت الابتزاز الإقليمي أو الدولي، فها هي أنقرة تعود مرغمة إلى التنسيق مع أنظمة منافسة، أو كانت تُصنّفها عدوة وإرهابية حتى الأمس، والعبرة ليست في قوة الخصوم والمنافسين.

الحق أن تنازلات أردوغان في سوريا غير مكلفة داخلياً، فلا يوجد بين خصومه في الأحزاب الأخرى من يأخذ موقفاً متشدداً من سلطة الأسد، بل هناك بينهم من يدعو منذ سنوات إلى إعادة التطبيع معه. أما الجمهور التركي الذي يرى في القضية الكردية أولوية قصوى فهو لن يعارض التواصل مع سلطة الأسد درءاً لما يراه خطراً كردياً، وهذا الجمهور موجود بنسبة ضخمة بين مختلف الأحزاب التركية. في حزب العدالة نفسه لم يبقَ هناك أصوات ناقدة، مع وجود أولويات يعلو بعضها على الشأن السوري، من قبيل الانفتاح على موسكو الذي يبدو كيدياً تجاه الغرب، والتدهور الشديد في العلاقة مع الأخير. أو من قبيل تراجع مكانة تجربة الحزب الذي اعتُمد غربياً في ما مضى كنموذج للإسلام السياسي في المنطقة، وانتعشت معه الآمال حتى بتطور ديموقراطي أوسع والانضمام إلى المنظومة الأوروبية، في حين أتى الانقلاب الفاشل إيذاناً بانقلاب من السلطة ذاتها نحو التضييق على الحريات الديموقراطية.

تبرير تلك التنازلات بخذلان الغرب حكومةَ أردوغان في أزمتها مع موسكو يوم أسقطت الطائرة الروسية غير كافٍ، مثلما لا يكفي فقط تعليق مسؤولية ما آلت إليه القضية السورية على المجتمع الدولي المتقاعس. إذ يجب هنا استرجاع الخلافات الإقليمية بين أولئك المطالبين برحيل الأسد، وكيف أثّرت بشدة على الملف السوري برمته، بخاصة الخلافات الإقليمية حول انقلاب السيسي في مصر وكانت حكومة أردوغان طرفاً فيه. فمن المعلوم أن تركيا باتت هي المنفذ الوحيد إلى الداخل السوري الذي يمكنه العمل بشيء من الاستقلالية، ولو كان هناك تنسيق إقليمي على الصعيدين السياسي والعسكري ربما أتت النتيجة أفضل مما آلت إليه، ولم تصل تلك القوى جميعاً إلى شراء الأدوار أو مناطق النفوذ من المتعهد الروسي بعد تدخله المباشر.

بالطبع مرت إعادة تموضع أردوغان وتغيير مواقفه، وضغوطه على المعارضة، من دون استنكار أو تذمر الأخيرة. موقع أنقرة من القوة إزاء المعارضة بحيث تضمن انصياعها، فهي تستقبل العدد الأضخم من اللاجئين السوريين، وتستضيف العدد الأكبر من قيادات المعارضة ومنظماتها، وكذلك انطلاقاً من أراضيها تعمل منظمات الإغاثة في الداخل، رغم تضييق الحكومة التركية على قسم كبير منها مؤخراً بذريعة عملها في أراضٍ تخضع للميليشيات الكردية. أما إقليمياً فلم يعد من وجود لجهات تزايد عليه في الموقف من السوريين، والعديد من القوى الإقليمية بحاجة إلى ذرائع تغطي الرضوخ لمتطلبات التفاهم الأمريكي الروسي وتقاسم مناطق النفوذ.

لكن كل تلك الظروف المواتية لتقلبات أردوغان ما كان أن ينبغي لها منع نقد مستحق للرجل، بخاصة من أولئك الذين كانوا شديدي الحماس له ولتصريحاته النارية في ما سبق، ومنهم من أطلق عليه لقب "أسد السُنّة"! لولا أن هذا النمط يُظهر مبدئية معاكسة تماماً لبراغماتية أردوغان، رغم الأيديولوجيا التي تجمع نظرياً بين الطرفين، تلك المبدئية التي تمنعه وهو يتلقى الطعنة الأخيرة من القول: حتى أنت يا أردوغان!  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها