الثلاثاء 2017/10/24

آخر تحديث: 13:26 (بيروت)

تعريف العنف المصري

الثلاثاء 2017/10/24
increase حجم الخط decrease
كان أسبوعاً دامياً في سيناء. بدأ بالهجوم على مصنع للأسمنت في 11 أكتوبر الجاري، ثم الهجوم على ارتكازات أمنية في العريش، ونشر فيديو لعملية إعدام ميدانية نفذتها "ولاية سيناء" في أحد المدنيين في 13 الجاري أيضاً. ثم بعد يومين، سقط خمسة قتلى من العسكريين في هجوم بالهاون على نقاط أمنية في الشيخ، وأطلق صاروخان من سيناء على جنوب إسرائيل، قبل أن تنتقل الهجمات إلي وسط مدينة العريش في 16 الجاري، بهجوم أسفر عن سبعة قتلى ما بين عسكري ومدني، واختطاف مدني واحد، إضافة إلى نهب فرع "البنك الأهلي" في المدينة. وجاء هجوم الواحات، يوم الجمعة الماضي، ليعيد طرح أسئلة عن تعريف العنف الجاري في مصر، ومسمياته.

فعلى سبيل المثال، وعلى خلفية هجوم الواحات، كتب براء نزار ريان، مقالاً في موقع "مدونات الجزيرة"، بعنوان "عودة البارا... هل دخلت مصر رسمياً العشرية السوداء؟!"، مُقارناً بين ما يجري في مصر من عنف مسلح، وبين أحداث العشرية السوداء في الجزائر، والتي يعتبرها كثيرون حرباً أهلية. ومع أن مقال ريان، لا يتجاوز الإحالة إلى النموذج الجزائري، الذي أسقط عليه أحداث مصر، منذ 30 يونيو وحتى قبل ذلك، إلا أنه ما زال يطرح أسئلة جديرة بالنظر.

فالدولة تطلق على ما تخوضه تسمية "الحرب على الإرهاب". وتصفه وكالات الأنباء العالمية أحياناً بـ"التمرد" أو "التمرد المسلح"، فيما يذهب البعض إلى إعتباره "اقتتالاً أهلياً"، أو "عشرية سوداء"، بل وفي بعض الأحيان ثمة من يقفز إلى "حرب أهلية مكتومة" أو منكرة.

في الحقيقة، لا يبدو تعريف "الحرب الأهلية"، أمراً مبالغاً فيه إلى درجة كبيرة. فوتيرة الاشتباكات متكررة، حادة، تتسع نطاقاتها الجغرافية، والتي تضمنت هجمات على قطع بحرية وسقوط طائرات حربية وهجمات صاروخية خارج الحدود. إضافة إلى عدد الضحايا، وبنية التنظيمات المتورطة وأيديولوجياتها، وتبعات هجماتها، والتي لم يكن أقلها عزل نطاقات جغرافية بكاملها في سيناء، بل وصلت إلي عمليات تهجير قسري للسكان من قطاعات منها، وتطهير طائفي لبعضها. ما يعني أن الأمر يستدعى مراجعة لتعريف الحرب الأهلية، ومحدداتها. فطبقاً "لمشروع معاملات الحرب"، الذي أسسه ديفيد سنجر، المتخصص في العلوم السياسية، بجامعة متشغان العام 1963، بغية مراكمة قاعدة بيانات للمعاملات الكمية والكيفية للحروب، والذي ما زال مرجعاً أكاديمياً وبحثياً رئيسياً لمباحث العلوم السياسية والصراعات المسلحة إلى اليوم، فإن الحرب الأهلية هي صراع مسلح داخل نطاق الدولة الواحدة، بين تنظيمات، أحدها الدولة. وذلك بغرض استقلال نطاقات منها، أو الوصول إلى الحكم أو تغيير السياسات، بدوافع عديدة، من بينها المظلومية، ويسقط جراءها ألف قتيل سنوياً أو أكثر. ومع أن معاملات العنف المسلح في مصر، تبدو مطابقة لتعريف الحرب الأهلية الكيفية، بحسب المشروع، ولا تبدو بعيدة من معاملاته الكمية، فإجمالي عدد الضحايا من العسكريين بالإضافة إلى المدنيين والتنظيمات المسلحة يقترب من الألف سنوياً، خلال الأعوام الثلاثة الماضية، بل ويتجاوزها أحياناً. لكن معاملات المشروع الكمية، وعتبة الألف قتيل، التي يتخذها كمقياس لتعريفه للحرب الأهلية، لا تبدو مقنعة بما يكفي.

فبين الكثير من النقد الذي تعرض له المشروع وتعريفاته، يطرح نيكولاس سامبنياس، في ورقته "ما هي الحرب الأهلية؟ التعقيدات المفاهيمية والتجريبية للتعريف الإجرائي"، المنشورة في العام 2004، تشكيكاً في صلاحية تعريفات المشروع وبالأخص عتبته الكمية. فصراع يسقط فيه 999 قتيلاً سنوياً، مثلاً، لن يكون حرباً أهلية، فكيف لإجمالي الألف قتيل أن يكون مقياساً لحرب في دولة عدد سكانها نصف مليون نسمة أو أقل، ومثلها في ذلك مثل دول أخرى يفوق عدد سكانها المئة مليون نسمة مثلاً؟ وهل، إذا انخفض عدد الضحايا عن الألف في أحد الأعوام، فإن هذا يعني نهاية للصراع الأهلي أو توقفاً له؟ وإن ارتفع مرة أخرى في العام التالي، فهل هذا تجدد للحرب نفسها؟ أم بداية لحرب أهلية جديدة؟ لا تدافع ورقة سامبنياس عن معايير كمية بديلة، كنسبة عدد القتلى لعدد السكان، أو إجمالي عددهم بطول الصراع، بل ترفض ضمنياً صلاحية المقاييس الكمية في النطاق السياسي، وإن اعترفت على مضض بالحاجة لها إجرائياً لأغراض التصنيف والتوثيق والمقارنة والقياس.

لا تعيننا العلوم السياسية ومقاييسها كثيراً لتأطير العنف المسلح في مصر، ولا لتسميته أو تعريفه على وجه الدقة. فإن كان عدد القتلى قد قارب الألف بالفعل، إن لم يتعداه، فمصر بلد كبير، يسقط فيه من ضحايا حوادث الطرق في الشهر الواحد، على سبيل المثال، ما يقارب هذا العدد. وإذا كان قطاع من السكان في سيناء، يختبر بالفعل، أهوال الحرب بكل ما تعنية الكلمة، من قصف وموت وتهجير قسري وحصار وغيرها، فإن الغالبية الساحقة من سكان الوادي يبدون بعيدين عما يحدث، بفعل التعتيم الإعلامي الممنهج والبُعد الجغرافي لنطاق العنف. لكن الأهم، أن تعريف ما يحدث أو تسميته ليس أمراً قياسياً بحتاً، تعيننا فيه الأرقام والإحصاءات، بل هو موضوع لصراع خطابي سياسي وأخلاقي في حد ذاته. فتعريف الحرب الأهلية، يقر ضمنياً بتحلل السلطة المركزية للدولة واهتزازها من جانب. ومن جانب آخر، يضع أطراف العنف، بما فيها الدولة، على أرضيات أخلاقية متقاربة.

وفي حين ترفض الدولة، ومعها السواد الأعظم من الرأي العام، رؤية ما يحدث إلا كهجمات وعمليات واشتباكات متفرقة، لا أكثر، فإن الداعي للقلق وبعض الذعر أيضاً، ليس طرح تسمية "الحرب الأهلية" والقبول بها أو إنكارها. بل تلك اللامبالاة تجاه ما يحدث، بغض النظر عن تسميته. وذلك بوصفها حروب "الآخرين"، أي حرب الدولة مع التنظيمات. أو كأنها حرب في مكان آخر، نرى منها القليل عبر شاشات التلفزيون، ولا تثير فينا سوى القليل من الحزن أو بعض التعاطف.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها