الجمعة 2017/10/20

آخر تحديث: 03:41 (بيروت)

رمزية كركوك كنفطها

الجمعة 2017/10/20
increase حجم الخط decrease

قبل بدء كلمة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أمام المخاتير في المجمع الرئاسي التركي يوم الخميس، عُزفت ”أغنية كركوك“ التركمانية العراقية. الأغنية تدل على الحنين الى المدينة، وهويتها التركمانية، وبين كلماتها ”ليتني كنت حجراً في أساس القلعة“. وقلعة كركوك الرمز التاريخي الأول في المدينة، إذ يُعتقد بأنها بُنيت عام 884 قبل الميلاد في العهد الاشوري.

لم يكن تصريح الرئيس التركي خروجاً عن المألوف في أنقرة حيث حملت الحكومات المتعاقبة لواء الدفاع عن حقوق الأقلية التركمانية في العراق، وهي الثالثة اثنياً بعد العرب والأكراد (هناك تفاوت كبير في تقدير نسبتهم السكانية: بين 2 و9%). كما تأتي خطوة أردوغان بمثابة رد تركي (قومي) على إجراء استفتاء الاستقلال الكردي في كركوك، واعتبار المدينة على ألسنة المسؤولين الأكراد، ”كردستانية“ تاريخياً. 

ترافق هذا الجدل العقيم والتسطيح القومي، مع تركيز للاعلام العربي على نفط كركوك، وصل إلى حد اظهارها في الإعلام (المرئي خصوصاً) على أنها مجرد آبار نفط وطرقات ممدودة بينها في سياق تغطية المواجهة العسكرية التي انتهت بسيطرة القوات العراقية والحشد الشعبي على المدينة. 

صحيح أن قضاء كركوك يضم عُشُر احتياطي البلاد من النفط، وبأن هذه الثروة أساسية لضمان ديمومة أي دولة كردية مالياً. لكن المدينة أيضاً تحوي مخزوناً تاريخياً ورمزياً واختلاطاً دينياً وإثنياً، يؤهلها لأن تكون مركزاً للشحن القومي. كركوك مدينة للتركمان والعرب السنة والشيعة والأكراد وللكلدان الكاثوليك والسريان الأرثوذكس وللأرمن واليهود أيضاً. لكل من هؤلاء تاريخ في المدينة. ومقارنتها بالقدس في هذا المقام ليس صدفة.

يهود كركوك، على سبيل المثال، وردوا في الإحصاءات العثمانية منذ القرن السادس عشر وظلوا في مدينتهم لسنوات بعد قيام دولة اسرائيل. بعض العاملين الأجانب في قطاع النفط بالمدينة، كتبوا عن يهودها الناطقين بالتركمانية، وعن أزقتها التاريخية والألبسة التركمانية والكردية التقليدية، واختلاط اللغات والثقافات الدينية. كانت مثار إعجاب لمريدي التنوع والمدن التاريخية. 

وهذا الاختلاط والتنوع غذّى حركتين: قومية وثقافية.

من الحكم الفارسي والروماني إلى العربي والسلجوقي والعثماني، بات التاريخ وسردياته سلاحاً لدى القوميين، حتى ممن تكمن النزعة في مخيلتهم لضعف الحيلة. ففيما كركوك هي للتركمان والأكراد، تركمانية وكردية تباعاً، يراها السريان آشورية. بحسب هذه الرواية، قامت أحد آثارها.

بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003، تفجّرت هذه الحساسيات الاثنية، إذ دخلت القوات الكردية مدينة كركوك، وبدأت بتوطين آلاف الأكراد في هندسة سُكانية بررتها بضرورة تصحيح سنوات التعريب. في تشرين الثاني (نوفمبر) من ذاك العام، أجريت مقابلات عديدة مع لاجئين وشخصيات تركمانية في أنقرة بينها رئيس الجبهة التركمانية العراقية حينها فاروق عبد الله، للاستماع الى رواياتهم عن ”تكريد“ المدينة بعد سنوات من تعريبها. كانت شكوى التركمان أنهم ضحايا العمليتين.

لم يحصل تهجير مباشر، لكن تحولت الاغتيالات والجرائم الى حدث دائم في أوساط التركمان. ورغم أن تنظيم ”داعش“ نفذ بعض هذه العمليات لاحقاً، إلا أن ناشطين ومسؤولين تركمان اتهموا المحافظ بعدم توفير الأمن لهم بشكل كاف مما حوّل الحياة الى ”جحيم“. كما زاد من ضعفهم، الانقسام التركماني الحاد، فهم يتوزعون سياسياً بين اسلاميين قريبين من الفصائل الشيعية وايران، وقوميين موالين تاريخياً لتركيا.

كان هذا التوتر والصراع الدموي نتاجين واضحين لنشاط القوميين الأكراد والتركمان.

لكن ثقافياً، كانت كركوك التي ما زال سكانها أقل من مليون نسمة، إحدى أثرى مدن العالم العربي انتاجاً. جماعة كركوك الأدبية في ستينات القرن الماضي، تأسست في لقاءات في مقاهي المدينة، وقدمت للعالم العربي أسماء مثل فاضل العزاوي وجليل القيسي ومؤيد الراوي وسركون بولص ويوسف الحيدري وعصمت الهرمزي وغيرهم أيضاً في الشعر والأدب والثقافة والمسرح. نشر بعض هؤلاء الكتاب في صحف ومجلات ودور نشر لبنانية، ولمعت أسماؤهم على صعيد المنطقة. كان هؤلاء الأدباء يُمثلون فسيفساء المدينة بأكملها، بعيداً عن الحركات القومية. 

في أحد مقاهي أنقرة عام 2003، التقيت المسرحي الراحل عصمت الهرمزي، أحد أعضاء جماعة كركوك الأدبية. كان تُركمانياً درس المسرح في تركيا، وبات أحد وجوهه المعروفين في أنقرة (وصل الى موقع نائب مدير المسرح الوطني). أذكر من نقاشنا تململه من المنطق القومي السائد حينها في الحديث عن كركوك، مدينته ومسقط رأسه، كردياً وحتى تركمانياً. تحديداً، علقت جملة واحدة في ذهني: ”لا يُمكنني أن أعيش من دون أكراد مدينتي“.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها