الثلاثاء 2017/10/03

آخر تحديث: 07:23 (بيروت)

مصر: هذا التعداد من تلك الدولة

الثلاثاء 2017/10/03
increase حجم الخط decrease
لم يكن من باب المبالغة، أن يعتبر مؤرخون، مبحث الديموغرافيا العام 1801 كبداية لتأريخ الإحصاء السكاني الحديث وبزوغ فكرة "السكان"، محوراً لموضوع الحكم في العصور الحديثة. فمع أن تعداد السكان قديم قدم الحضارات الفرعونية والبابلية، إلا أن التعداد الذي أجرته الحكومة البريطانية مطلع القرن التاسع عشر، كان الأول من نوعه على الإطلاق. وذلك ليس بسبب إدراجه بيانات عن المهن والممتلكات والأنشطة الاقتصادية للأسر، ومعدلات المواليد والوفيات، للمرة الأولى، بل لأنه كان مؤسساً على بنية نظرية وإيديولوجية فريدة في حداثتها حينها. فكما شكلت ورقة الإنكليزي، توماس مالتوس، "عن مبادئ السكان"، المنشورة قبل تاريخ التعداد بثلاثة أعوام، نظريات القرن التاسع عشر في العلوم الإنسانية والطبيعية، بدءاً من الاقتصاد والسياسة ووصولاً إلى علم الأحياء ونظرية التطور، فإن أطروحتها التشاؤمية عن ارتفاع المعدلات في الزيادة السكانية إلى حد المجاعة الشاملة، كانت الدافع الرئيسي للبرلمان البريطاني لإصدار قراره بالإحصاء السكاني، في العام 1800، وبداية لتطور أشكال أكثر تعقيداً من السلطة، تؤطر السكان وأجسادهم كمواضيع للقياس والضبط والتحكم، وتتدخل في النطاقات الأكثر خصوصية، كالخصوبة والصحة والعلاقات الجنسية، في إطار شبكة من علاقات الإنتاج والملكية والبطالة وغيرها، لصالح المنفعة العامة.

وفيما راح منهج التعداد يتوسع ليشمل الإمبراطورية البريطانية وسكانها، بتحويلهم إلى أرقام يمكن معالجتها رياضياً والتحكم بها بشكل أكثر دقة وعمومية في الوقت نفسه، ففي مصر، كان مشروع محمد علي الطموح والمأساوي في قسوته، قد تبنى تقنية التعداد السكاني، في صورتها الحداثية، كإحدى أدواته لتحقيق أغراضه. ففي العام 1848، بدأ أول تعداد للسكان في مصر، ولم يكتفِ بتسجيل عدد الذكور الأحرار البالغين، كما فعلت الإحصاءات العثمانية المعنية بالحصر الضريبي والتجنيد، بل شمل للمرة الأولى، النساء والأطفال والعبيد، وبيانات تفصيلية عن المهنة والنشاط الاقتصادي والمُلكية ومحل الميلاد والجنسية والعِرق والدِّين. يبدو مدهشاً أن التعداد المصري، لم يكن الأول من نوعه في العالم العثماني وحده، بل تزامن مع المحاولات التأسيسية الأولى لتقنية التعداد في فرنسا، وسبق دولاً أوروبية عديدة بعَقد على الأقل. لكن الأمر لا يستدعي الكثير من الزهو للأسف، فالتعداد الذي تم استكماله في العام 1868، وتحتفظ دار الوثائق المصرية بسجلاته المحتوية على 6950 وثيقة مكتوبة بخط اليد، وكما كان يهدف لـ"المصلحة العامة"، وتسبيب "التقدم في الحضارة"، بحسب نص الأمر الذي أصدره محمد علي، فإن تضمين التعداد لحصر "الغرباء" و"الفارين" كان كاشفاً عن أغراضه المعنية بالتحكم في السكان وحركتهم، وإخضاعهم للتجنيد الإجباري والسخرة، وكشف أيضاً عن القطبين المتناقضين لمشروع الدولة الحديثة في مصر، أي التقدم والقسر.

في العام 1882، وقبل دخول البريطانيين إلى مصر بشهرين، صدر أول تعداد سكاني منشور (باللغة الفرنسية)، قبل إجراء تعداد العام 1897 تحت الإدارة البريطانية، ليتبعه تعداد عشري دوري من العام 1907 وصولاً إلى التعداد الأخير، والذي أُعلنت بياناته قبل أيام. يأتي تعداد 2017، والذي تتباهى الحكومة بأنه الإحصاء الإلكتروني الأول من نوعه في مصر، ليكشف كغيره من التعدادات، عن الكثير وعن لا شيء في آن واحد. فنحن نزيد، ووصل عددنا إلى أكثر من 104 ملايين نسمة، مجرد رقم آخر في سلسلة طويلة من الأرقام التي تصفها الصحافة المصرية - عن حق - بأنها "كارثية". أمّية وتسرب من التعليم واختلال عميق في توزيع الثروة لا يدلل عليه أكثر 12 مليون وحدة سكنية مغلقة، أي أكثر من ربع عدد الوحدات الإجمالية، بينما تتشارك ملايين الأُسر دورات المياه، وبعضهم من دون دورة مياه أو مطبخ على الإطلاق. ثمة 28.8 مليون متسرب أو غير ملتحق بالتعليم، و18.4 مليون أمّي، 18.30 مليون من المتزوجين قبل السن، ونصف السكان فقط مؤمَّن عليهم صحياً. أرقام لا تعني شيئاً لأحد، سوى مَن يعانون ثقلها يومياً، ولا يخجل غيرهم من أن تكون مبرراً آخر لاحتفالية يحضرها رئيس الجمهورية للإعلان عنها، والثناء على الوثبة الإلكترونية والإنجاز التقني في تجميعها بدقة.

الأرقام، كما هي قادرة على الكشف وتكثيف الكارثة أمامنا، فإنها أيضاً كفيلة بتغطيتها، إذ تختزل مأساة الملايين التي تُختصر حيواتهم في أعداد وجداول منمقة تدّعي الحياد، وتعرضها كإشكاليات إحصائية تتكفل بها حلول بيروقراطية وتقنية.

يظل إحصاء 2017 مخلصاً لقسوة مالتوس، الذي حض الدولة على رفع يدها عن المعوزين والفقراء وتركهم للطبيعة لتحدد مصيرهم. كما يبقى وريثاً أميناً لمنطق دولة محمد علي، محتفظاً بقطب القسر وقسوته، فيما يتوارى قطب "التقدم" بلا رجعة.. يتسلح بالتكنولوجيا الرقمية ودقتها الحادة هذه المرّة، وبالسلاح وسطوته كالعادة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها