الجمعة 2017/10/20

آخر تحديث: 22:31 (بيروت)

صياغة الوطنية الفلسطينية

الجمعة 2017/10/20
increase حجم الخط decrease

عندما كان الاستقلال مطلباً عربياً في ظل السلطنة العثمانية، كان للاستقلال الفلسطيني سمات خاصةً به فرضتها ازدواجية مطلب الوجود في كيانٍ معروف، وهاجس الثبات ضمن هذا الكيان من دون تهديد بالانتقاص من حقوق المواطنين المستقبليين. مطلب الاستقلال العربي تبدَّل في ظل الانتدابات الأجنبية التي ورثت سيطرة السلطنة العثمانية الآفلة، فصار مطالب استقلالات منفصلة بعد أن تعثر المشروع الاستقلالي في "دولة عربية" كبرى. كانت الاستقلالات المتعددة هي المشاريع الواقعية التي تستجيب لمقتضيات الكيانات العربية المتفرقة على صعيد النشأة، والمتباينة وفقاً لسياق تطور كل منها، وكانت ذات المشاريع، ترجمة لسياسات القوى الكبرى التي باتت لها الكلمة الفصل في مجموع البلاد العربية.


من جديد كان للفلسطينية السياسية معضلاتها الخاصة، إذ في الوقت الذي كانت تُغدَق فيه الوعود على "الجمع العربي"، حرية واستقلالاً وتطوراً، كان الوعد الفلسطيني قد أُعطيَ "لشعب مختار" آخر، وهكذا عندما خطت البلاد العربية خطواتها نحو الإمساك بكياناتها الجغرافية، كانت الوطنية الفلسطينية تواجه وقائع اغتصاب إطارها الجغرافي المعروف بفلسطين، وتواجه أيضاً عمليات تزوير ومحو إطارها التاريخي والثقافي. عمليتا التزوير والاغتصاب، تأسستا على أسطورة زائفة جرت "وقعنتها" فأمست واقعاً ملموساً، ونهضتا على شبكة مصالح استعمارية مكَّنت "للآسطورة" من التاريخ ومن الجغرافيا، وما زالت تمكِّن لاستمرارها على صعيدين: تثبيت حق المغتصب الوافد والدفاع عنه، بصفته المالك الأصيل، وتثبيت الظلم والإجحاف والدفاع عنه، في وجه المالك الأصلي، بصفته الطارئ الدخيل. بين هذين الحدين، الاعتداء على الحقوق الأصلية وتجسيدها واقعاً عنيداً، والوقوف في وجه صاحب الحق التاريخي وترجمته في وقائع سياسية أكيدة، سلكت الوطنية الفلسطينية مسارات طويلة متعرجة، وتبلورت في سياقات مضنية ذات كلفة عالية، وعندما وضعت الاستقلاليات العربية "عصا الترحال" عن عواتقها، كانت الوطنية الفلسطينية في ذروة مواجهتها، فلجأت إلى امتشاق سلاحها الخاص لتخوض معاركها الخاصة، ورمت المعضلة الناشئة في فلسطين على عموم الكيانات المنشأة حديثاً، فكان ما كان من قومية عربية، ومن طفرات "ثورية"، ومن احتجاجات "انقلابية"، وكان وما زال، أن صياغة الوطنية الفلسطينية ما زالت عملية مستمرة، وما زال أفقها الناجز صعب المنال، حتى تاريخه، هذا رغم كل بعض "التحسينات" التي فرضتها إرادة الشعب الفلسطيني ونضالاته، على سياسات الذين كانوا في أساس خلق النكبة الفلسطينية، وما زالوا محجمين عن التقدم إلى معالجتها معالجة جوهرية.


ينطوي كل تقدير سياسي على الحديث عن الظروف الذاتية، ويضيف إلى الذاتي شرح الظروف الموضوعية، وكثيراً ما طغى جانب تحليلي على الجانب الآخر، وفقاً لرؤية المتحدث المحلل، وبالانسجام مع أهدافه من الكلام السياسي الطويل. عربياً، تطغى على كل حديث غلبة العامل الموضوعي، ويطنب "العربي" في حشد الأدلة التي ترفع المسؤولية عن كاهله، وتلقيها على الخارج الطامع بخير العرب وثرواتهم.  القول بوطأة التدخل الخارجي وثقله قول حقيقي، لكن الخلاصات منه غير متناسبة مع ما تفترضه حقيقة التدخل. أولى الخلاصات، خطأ إخفاء القصور الذاتي أو التقليل منه، هذا في الأصل، وأول أخطاء هذه الخلاصات الأولى، هو التخفف من العبء الفلسطيني كعبء عربي عام، وجعله عبئاً "خارجياً" يخص الفلسطينيين وحدهم، ويلقي عليهم اللوم في ما وصلت إليه الأحوال الفلسطينية. في سياق الذاتي والموضوعي هذا، يقدم الوضع الفلسطيني الدليل تلو الدليل، على أنه الأكثر حيويةً بين أقرانه، وأنه الأشد حرصاً على الوطنيات العربية وهو يسعى إلى وطنيته، وأنه الحريص الأول على حشد الطاقات العربية، لأنه أول المتضررين من انفراط عقدها. هذا على صعيد موضوعي، أما على صعيد ذاتي، فإن السياق الوطني الفلسطيني غني بوقائع صناعة وحدته، التي هي معضلة في الجغرافيا وفي السياسة، بفعل الشتات والاحتلال، والسياق ذاته ثريّ وحافل بسياسات تجنب الصراع الداخلي، وإدارة العلاقات بين مكوناته إدارة متزنة، تجمع بين "ديمقراطية الفصائل"، وتضم بين حساباتها الموازَنة بين أشكال التمثيل الشعبي في منظمة تحرير تشكل بيت الفلسطينيين، وبين تمثيل رسمي فوق جزء من أرض فلسطين، يحاول أن يوسع البيت ليكون متسعاً لممارسة هوية فلسطينية لا لبس فيها، في دولة فلسطينية واضحة الحدود، وواضحة الاستقلال والسيادة والعلم والنشيد.


في فلسطين الآن، عملية "مصالحة" فوق أرض غزة، وهذه خطوة أخرى في سياق تطوير صياغة الوطنية الفلسطينية، هذه التي لا تأخذها "الفصائلية"، ولا تحتكرها الحزبية، ولا يستطيع صاحب إيديولوجيا معينة أن يجعلها سطرين في نظريته. الوطنية الفلسطينية رحبة، هكذا كانت وهكذا تبقى، وهي مرنة وحيوية وجامعة، هكذا كانت وهكذا هي مستمرة، ومن ذلك تمتلك تلك الوطنية عناصر الديمومة، وإمكانية البقاء والتطور والثبات.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها