الثلاثاء 2017/01/24

آخر تحديث: 11:57 (بيروت)

التحديات الأوروبية: استعادة التاريخ

الثلاثاء 2017/01/24
increase حجم الخط decrease
"لو ظل الغربيون رأسماليين وقوميين، فسيهزمهم الروس. لكنهم، إذا دمجوا اقتصادياتهم وسياساتهم، فسيمكنهم الانتصار على روسيا". 

هذا ما كتبه الفيلسوف الفرنسي روسي الأصل، أليكساندر كوجيف، في إحدى رسائله الكثيرة إلي صديقه، ليو شتراوس، وشكّل صياغة مبسطة لفلسفته عن نهاية التاريخ التي استعارها منه فوكوياما لاحقاً. فبينما كان الصراع محتدماً بين الولايات المتحدة، "الهيغيلية اليمينية" كما وصفها كوجيف، ومقابلها السوفياتي، "الهيغيلية اليسارية"، فإن الستاليني التائب، الذي كان حلمه الفلسفي عن نهاية التاريخ يتوَّج بسلطة موحدة للسلم العالمي، من البيروقراطيين المحايدين سياسياً في مجتمع بلا صراع، هجر الفلسفة إلى العمل البيروقراطي، ليصبح ممثلاً عن الحكومة الفرنسية في بروكسيل، وأحد مؤسسي مشروع الإتحاد الأوروبي الأوائل إيديولوجياً وإدارياً.

يوم السبت الماضي، وفي مدينة كوبلنس الألمانية، دعت زعيمة "حزب الجبهة الوطنية الفرنسية"، ماريان لوبان، الأوروبيين، للاستيقاظ، على مثال أقرانهم البريطانيين الذين صوتوا لصالح الخروج من الإتحاد الأوروبي، متوقعة أن يجتاح "تأثير الدومينو" أوروبا كلها، خصوصاً بعد تنصيب دونالد ترامب والذي وصفته بالإنقلاب. جاءت خطبة لوبان، التي تصدرت آخر استطلاع للرأي حول الانتخابات الرئاسية الفرنسية، في إطار مؤتمر "الحرية لأوروبا" الذي نظمه حزب "البديل لألمانيا" اليميني، والذي دعا قيادي فيه، مطلع الأسبوع الماضي، إلى مراجعة الموقف من التراث النازي. وشهد المؤتمر أول تجمع علني لأحزاب أقصى اليمين الأوروبي، والتي لطالما تحاشت تلك اللقاءات، بفعل أجنداتها القومية المتطرفة والمعادية للعمل الأوروبي الجماعي، ومن بينها رابطة الشمال الإيطالية، وحزب الحرية الهولندي، المتوقع أن يفوز بالنسبة الأعلى من المقاعد البرلمانية، للمرة الأولى، في الانتخابات العامة المقبلة، في آذار/مارس المقبل. ورغم أن مدينة كوبلنس، التي استضافت المؤتمر، ومن باب المفارقة العبثية، كانت محوراً لنزاع تاريخي دموي بين فرنسا وألمانيا امتد حتى اليوم في تمسك القوميين الفرنسيين بالنطق اللاتيني لاسم المدينة في مقابل النطق الألماني لها، فإن ما جمع أحزاب أقصي اليمين الفرنسي والألماني معاً، ومع نظرائهم في القارة العجوز، كانت الحماسة الاستثنائية لترامب، وأجندته الأوروبية.

تبدو أجندة ترامب بخصوص أوروبا، واضحة تماماً. فبينما يصف فيليب ستيفنز، في جريدة "فاينانشال تايمز"، مواقف ترامب من روسيا والتغير المناخي والقانون الدولي، بأنها على النقيض من الموقف الأوروبي، فإن التهديد الحقيقي الذي يمثله ترامب لأوروبا هو في موقفه من المشروع الأوروبي نفسه. فهجوم ترامب على الإتحاد الأوروبي، ووصفه بأنه عرَبة لألمانيا، وإعلانه عن إعجابه الشديد بالخروج البريطاني من الإتحاد الأوروبي، وتوقعه الذي حمل صيغة التمني لخروج العديد من دول الإتحاد تباعاً، بالإضافة إلى هجومه المستمر على حلف "الناتو"، ولوم أعضائه الأوروبيين، لا يحمل رؤية براغماتية تجاه حلفاء الولايات المتحدة الأقرب، بل هو قائم على تصور ترامب الأيديولوجي أكثر من أي شيء آخر.

فترامب، الذي ربما يكون أكثر الرؤساء الأميركيين أدلجة على الأطلاق، يجد في مشروع نهاية التاريخ الأوروبي، وجهازه البيروقراطي الضخم ومجتمعه الخالي من الصراع وحدوده المفتوحة، تعارضاً مع منطقة القومي، ونقيضاً لتصوره عن العالم بوصفه مكاناً للصراع وغلبة الأقوى، وأنه يعرض أيضاً مفهومه عن الحد الأدنى من بيروقراطية الدولة وتدخلها في إدارة المجتمع.

يكتب رئيس الوزارء البلجيكي السابق، في جريدة "غارديان" البريطانية قبل أيام، أن أوروبا تواجه موقفاً مصيرياً. فبينما تشن روسيا "حروبها الهجينة" عليها، فإن أميركا، تحت حكم ترامب، تمثل تهديداً لا يقل ضراوة لتماسكها الداخلي. لكن ما يزيد الموقف تعقيداً، هو أن ترامب، رغم تناقضات تصريحاته بوجه عام، لم يغيّر موقفه من بوتين والقائم على إعجاب استثنائي، بالطبع لأسباب إيديولوجية محضة أيضاً. الأمر الذي دفع وسائل الإعلام الأوروبية إلى التساؤل عما إذا كان ترامب سيتدخل إذا اجتاحت القوات الروسية إستونيا، أم سيترك الأوروبيين لمصيرهم. وهو سؤال، وإن كانت الميديا تطرحه من باب الجدل، فإن القلق الذي تبديه حكومات دول البلطيق مؤخراً، يشي بأن السؤال يبدو جدياً بالنسبة إليهم.

في لندن، تحتفي رئيسة الوزراء، تيريزا ماي، بأنها ستكون أول رئيسة دولة ستلتقى بترامب بعد تنصيبه، الأسبوع المقبل. وإن كان نايجل فاراج، زعيم حزب الاستقلال البريطاني السابق، أول سياسي بريطاني يلتقيه ترامب بعد فوزه الانتخابي، في دلالة لا تحتاج إلى توضيح.

تسعى ماي إلى التأكيد على العلاقات الخاصة بين البلدين، طامعة في اتفاقية للتجارة الحرة بينهما، لتأخذ خطوة أقرب إلى أميركا و أبعد من أوروبا، كان آخر تجلياتها هو الموقف البريطاني الحاد تجاه مؤتمر باريس الأخير، والذي أعلن توحد السياسية الخارجية البريطانية مع خط ترامب الخارجي، على حساب الجيران الأوروبيين.

يواجه حلم "كوجيف" المتحقق، عن أوروبا بلا حدود وبلا صراع، وعن حكومتها المركزية البيروقراطية المحايدة سياسياً، منعطفاً هو الأكثر مصيرية منذ نشأته. بين تهديدات من الداخل والخارج، تمثلها الفاشية التي ظن كوجيف أنها هُزمت بعد الحرب العالمية الثانية، وبين الخصم الروسي الذي افترض أن معركته انتهت بسقوط جدار برلين، بل وحتى تهديد من الولايات المتحدة، الحليف الأوثق في معركة الماضي ضد الخطرين الفاشي والسوفياتي.

يبدو من المبكر الجزم بما ستنتهي إليه الاختبارات العسيرة التي يواجهها الاتحاد الأوروبي اليوم. فبين احتمالات التداعي البطيء والتفكك التدريجي، أو الإتجاه إلى مزيد من التكامل بقيادة ألمانية، وربما في مواجهة حلف أنغلوساكسوني، أو أميركي-روسي قومي، فالمؤكد أن التاريخ قد انفلت من نهايته التي حلم بها كوجيف وشارك في صنعها في الماضي.  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها