الثلاثاء 2017/01/17

آخر تحديث: 08:01 (بيروت)

سوريا وفق ما يقوله ترامب

الثلاثاء 2017/01/17
increase حجم الخط decrease
 
صحيح أن الرئيس الأميركي المنتخب ترامب لم يصرح بتوجهات واضحة إزاء الملف السوري، رغم انتقاده سياسة سلفه، ولومه الغرب على عدم إنشاء مناطق سورية آمنة بأموال خليجية، واعتباره التدخل الروسي سيئاً جداً، إلا أن سوريا قد لا تكون غائبة عن تصريحاته الأخيرة، الأحد الماضي إلى صحيفتي "تايمز" و"بيلد". سوريا، الغائبة في حد ذاتها، ليست غائبة عما تبقى من ملفات يعرض فيها صفقات على موسكو، بل يمكن القول بأن الصفقة السورية المباشرة استئناف لسياسة أوباما، فإدارة الأخير كما هو معلوم كانت تبني تحفظها الأساسي على التدخل الروسي بحجة أنه لا يستهدف المنظمات الإرهابية بموجب قرار مجلس الأمن.

يعرض ترامب على موسكو رفع العقوبات الأخيرة التي أقرتها إدارة أوباما لقاء المشاركة الفعلية في الحرب ضد الإرهاب، وكأنه يريد إنعاش تفاهم كيري/لافروف في هذا الشأن، التفاهم الذي سبق أن وقف ضده جنرالات في البنتاغون ووكالة الاستخبارات الأميركية لئلا يتم تبادل معلومات أمنية حساسة بين الجانبين. يعرض أيضاً رفع العقوبات المتعلقة بالملف الأوكراني لقاء توقيع اتفاق على خفض الإنتاج النووي، مؤكداً بذلك عدم استعداده المقايضة بين الملفين السوري والأوكراني، بحسب ما سعى إليه بوتين منذ التدخل العسكري المباشر في سوريا.

أهم من ذلك، يصف ترامب التدخل الأميركي في العراق بأنه ربما أسوأ قرار اتخذته بلاده على الإطلاق، مشبهاً إياه برمي أحجار على عش دبابير. هذا يعني بالإضافة إلى ما سبق أن إدارته عازفة عن استرجاع سياسة التدخل لتغيير الأنظمة في العالم التي ميزت عهد المحافظين الجدد، وهو بذلك أقرب إلى أوباما التي شهدت الولايات المتحدة في عهده سياسة انكفاء، بينما واصلت روسيا طوال الوقت الاستفادة منها.

لا يغير وصف ترامب التدخل الروسي بالسيء جداً مما قاله سابقاً حول عدم استعداده الانخراط في مسألة تنحية بشار الأسد، فالإدانة اللفظية هنا تُصرف في عرض مقايضة صغيرة، وهي لزوم درء الشبهات المتعاظمة حول نيله دعماً من بوتين أثناء حملته الانتخابية. في الأصل كانت إدارة أوباما قد تخلت عن مطلب تنحي بشار، وكان جون كيري قد تحدث في لقاء جمعه بناشطين سوريين عن السماح لبشار بخوض الانتخابات المقبلة أيضاً. لذا لا جديد على هذا الصعيد، ربما باستثناء الدخول في ترتيبات جديدة تخص منطقتي نفوذ أميركي في سوريا؛ الجبهة الجنوبية التي تتحكم المخابرات الأميركية بإمداداتها والمناطق التي تسيطر عليها الميليشيات الكردية بتغطية من طيران التحالف ضد داعش.

لعل تمايز ترامب عن أوباما يظهر في الموقف من إيران وملفها النووي، فهو لم يخفِ في أكثر من مناسبة توقه إلى إلغاء الاتفاق والانقضاض على إنجاز سلفه الوحيد خارجياً. كانت سياسة أوباما أكثر انسجاماً، فمحاولات التقرب من نظام الملالي تتفق مع منع إسقاط بشار، ولاحقاً الإبقاء عليه. مع ترامب هناك تناقض بين العزوف عن التقارب مع إيران والإبقاء على رجلها في دمشق، غير أن هذا التناقض يجد حله في تل أبيب، لأن الأخيرة أيضاً لم تخفِ معارضتها القوية للاتفاق النووي الإيراني في وقت لم تعد تتحرج فيه من القول بأن بقاء بشار هو السيناريو المفضل لديها.

يمكن القول بأن تمدد إيران الإقليمي لا يخيف إسرائيل ولا الإدارة الاميركية، لا لأن من يدفع الثمن هي شعوب المنطقة فحسب، ولكن لأن محاولات الهيمنة الإيرانية محكومة بسقف من الولاءات المذهبية التي لا تشكل أغلبية في المنطقة، ومحكومة تالياً بمقاومتها المستمرة وباستنزاف إيران على المدى المتوسط إن لم يكن القريب. أما نظام بشار فلا يُنظر إليه بوصفه حليفاً عضوياً لإيران، على النمط الذي يُنظر به إلى حزب الله، هو نظام يتوسل البقاء تحت أية مظلة، وتخدمه الظروف الحالية بمتانة التحالف الروسي الإيراني ليكون تابعاً مزدوجاً. هنا مقايضة أخرى معروضة تحت الطاولة، فالعديد من القوى الإقليمية يتطلع إلى فك ذلك التحالف، وترامب أيضاً قد يفضّل نظام بشار تحت الوصاية الروسية فقط، لكنه مثل إسرائيل غير مستعجل على نهاية استنزاف طهران وحزب الله في سوريا.

رغم قوله بأن الأوان فات على فعل شيء في سوريا، وصحته نسبياً عطفاً على انكفاء سلفه، إلا أن هذا لا يعني تنازل إدارة ترامب عن الملف السوري بلا ثمن، فضلاً عن أنه غير ممكن طالما استمرت الحرب ضد داعش. فتحت عنوان "الحرب على الإرهاب" هناك سلة من القضايا المتشابكة والمعقدة، تبدأ من العراق وتنتهي في الجنوب اللبناني، واشنطن منخرطة فعلياً في الملفين السوري والعراقي وانسحابها لن يأتي بقرار اعتباطي، وعلى فرض خضوع مثل هذا القرار لمزاجية ترامب هناك متحفزون في الحزبين الديمقراطي والجمهوري للانقضاض عليه.

الأقرب إلى المنطق أن ترامب بين احتمالين مكلفين، أولهما الاستمرار بسياسة أوباما التي أثبتت عقمها في سوريا والعراق لجهة الحرب على الإرهاب، مع كراهيته الشخصية لما تحمله هذه المقارنة، وثانيهما القيام بخطوات دراماتيكية قد ترتد عليه. في المقابل يدرك بوتين حاجة ترامب إلى مساعدته، وهو ليس تواقاً لتقديم المساعدة، وقد لا يكون تواقاً حتى إلى تخلٍّ أميركي تام عن الملف السوري، بقدر توقه إلى محاولة ابتزاز الرئيس الجديد بربط الملفات الشائكة ببعضها. عدم وجود الملف السوري ضمن الأولويات الأميركية لا يمنح ترامب خفة التحرك فيه سوى نظرياً، بوجود جهوزية عالية لدى خصومه للنيل منه.

تحت البهرجة الإعلامية التي يتقصدها ترامب بتصريحاته ثمة مصالح للمؤسسة الحاكمة، وقد تشير أقواله الأخيرة إلى محاولة إقامة توازن بين طبعه الهائج وتعقّل الطبقة السياسية. أن يكون أميناً لتوجهات الأغلبية فهذا يعني شيئاً واحداً؛ ترك الساحة السورية مفتوحة ليخسر فيها الآخرون جميعاً.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها