الثلاثاء 2017/01/17

آخر تحديث: 07:55 (بيروت)

غاليانو وتيران وصنافير

الثلاثاء 2017/01/17
increase حجم الخط decrease
في كتابه الأشهر، "الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية"، يرسم الكاتب الأورغواني، إدواردو غاليانو، صورة شديدة الإنحطاط للطبقات الحاكمة في القارة اللاتينية التي" ليس لديها أدنى أهتمام بالتأكد مما إذا كانت الوطنية مربحة أكثر من الخيانة، أو إذا ما كان التسول هو الشكل الوحيد للسياسة الدولية". يصف غاليانو حداً من الرعونة، تفقد معه الأنظمة الحاكمة دوافعها البراغماتية للتساؤل عن ربحية "الخيانة" أو التيقن من جدواها.

أصدرت محكمة الإدارة العليا المصرية، حكماً نهائياً، مؤكدة السيادة المصرية على جزيرتي تيران وصنافير، ورافضة طعن الحكومة في حكم المحكمة السابق ببطلان التوقيع على اتفاقية إعادة ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية. ورغم أن القضية التي بتّت فيها المحكمة، هى واحدة من بين 13 قضية أخرى تنظرها المحاكم ذات الصلة بالأتفاقية، ومن المتوقع أيضاً أن تلجأ الحكومة المصرية إلى المحكمة الدستورية العليا مرة أخرى للطعن في ولاية القضاء الإداري على نظر الدعوى، إلا أن الحكم يظل انتصاراً سياسياً حاسماً ضد السلطة التنفيذية، وبياناً قضائياً واضحاً بتفريط النظام الحاكم وخيانته لمسؤولياته الدستورية والوطنية.

لا يرى غاليانو، الخيانة، كقيمة مضادة للوطنية. فأنظمة ما بعد الإستقلال اللاتينية، بالنسبة إليه، هي امتداد لطبقة المستعمرين الأوروبيين الأوائل، وأداة لفرض سيطرة رأس المال العالمي والإمبريالية الجديدة، عبر قمع مؤسسات تحمل صبغة الوطنية، ومن خلال استغلال وسطاء محليين. هكذا، فإن الوطنية، في أحيان كثيرة، هي الخيانة الأفدح. لكن ما كان يعنيه غاليانو هو أن الوطنية مربحة حقاً، وواحدة من أنجع وسائل الأنظمة الحاكمة في فرض هيمنتها وتبريرها.

لا يختلف تاريخ دولة ما بعد الإستقلال، في مصر، عن النماذج الأقدم تاريخياً في أميركا اللاتينية ومعظم دول العالم الثالث. فقد ظلت الوطنية، في صيغتها الأكثر ديماغوجية، أي الدفاع عن الأرض وصونها، هي أحد أهم أركان خطاب الإدارات المصرية المتعاقبة، ومبرر وجودها الوحيد في بعض الأحيان. وظلّت مسألة الأرض، أحد ثوابت النظام الناصري مع تحولاته ونسخه اللاحقة، والتي في سبيلها كان واجباً إسكات كل صوت والتضحية بالبشر وحقوقهم، مرة باسم المعركة ومرة أخرى باسم السلام. لكن، وفي مسألة الجزيرتين، فإن السلطة التنفيذية للنظام المصري الحالي، وريث مؤسسات يونيو بحكم الأمر الواقع، ونسخة الناصرية الأكثر تشوهاً ورثاثة، تبدو، من فرط رعونتها، وفي خوائها الإيديولوجي الكامل وتضخم زهوتها بسطوتها، غير معنية بصَون "وطنيتها" المربحة، وغير مبالية بالتضحية بآخر مبررات وجودها، مع فشلها المتوالي في الملفات الاقتصادية والإجتماعية والأمنية.

يأتي حكم المحكمة الأخير، بفضل جهود ونضالات عدد من المؤسسات الأهلية، وعشرات المحامين، ومئات النشطاء والمواطنين من غير المنخرطين في الشأن العام. لكنه يعكس أيضاً بعض التعقل لدى مؤسسات الدولة، سواء ضمن الهيئات القضائية أو في السلطة التنفيذية ذاتها، والتي ربما، بفعل ميراث الوطنية ورواسبها المؤسسية، أو بفضل براغماتية غير واعية، تقف اليوم أمام اتفاقية ترسيم الحدود، بغية تعطيل الخيانة المعلنة، للحفاظ على ما تبقى من وطنيتها، أي الخيانة المستترة.

ربما تبقى الجزيرتان تحت السيادة المصرية، وربما لا. لكن الأكيد أن الطبقة الحاكمة، وممثليها في مؤسسات الدولة، ستستمر في رهن السيادة الوطنية، ومواطنيها وأراضيهم، والمتاجرة بدمائهم والتسول باسمهم ومقايضة حيواتهم، تارة باسم الإصلاح الاقتصادي وقروض صندوق النقد واجتذاب الاستثمارات، وطوراً باسم محاربة الإرهاب أو المصلحة العامة.. أو لأنه، كما يقول غاليانو: "ليس هناك حل آخر، لتختلط الذرائع لدى هذه الطغمة بشكل غير مقصود، بين عجز طبقة إجتماعية معينة وبين الفراغ المزعوم في مصير كل أمة".

لا يتركنا غاليانو بلا أمل في النهاية. فالوطنية، بالنسبة إليه، ليست خيانة بالضرورة. فالانتصار القضائي الأخير، في قضية الجزيرتين، يعيد التأكيد على أن المصريين ما زالوا قادرين على الوقوف في وجه السلطة المستبدة، رغم كل الهزائم. كما يؤكد على صلاحية قيم "الوطنية" للتوظيف في مقاومة النظام، وفضح خيانته المعلنة، جنباً إلى جنب مع خياناته المستترة والأفدح.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها