الأحد 2017/01/15

آخر تحديث: 16:28 (بيروت)

"مزرعة الحيوان" في سوريا

الأحد 2017/01/15
increase حجم الخط decrease

يقول أحد النُقّاد معلّقاً على رائعة جورج أورويل، "مزرعة الحيوان": "تستطيع أن تقرأ الرواية وتُسقطها على واقعك، أو ألا تشغل نفسك بهذه التشابهات وستجد أنها ممتعة ومؤثرة جداً".. لكن في حقيقة الأمر، تُوحي قراءة تلك الرائعة الأدبية التي تعود إلى عقد الأربعينات من القرن الماضي، وكأنها تتحدث عن جوانب مما يحدث في سوريا اليوم.

فإن كُنت سورياً، حالما تفرغ من قراءة الرواية، تسأل نفسك، هل بدأ الأمر في سوريا بحلمٍ كاد يتحقق، لكنه انتهى إلى كابوس مرعب!

يُجمع المؤرخون على أن أورويل كتب رائعته الأدبية المذكورة إسقاطاً على ما آلت إليه الثورة البلشفية في عهد ستالين، الذي تحول إلى طاغية أوحد، ما جعل الكثير من جماهير الاتحاد السوفيتي، حينها، يترحمون على عصر "القيصر".

وإن كان المسار الذي صوّره أورويل للثورة، في "مزرعة الحيوان"، لم يتحقق في سوريا، بصورة جلية.. إذ لم يسقط الأسد، ولم تنتهِ الثورة بعد إلى طاغية بديل، وخرج من صفوف قيادات الثورة، من يصبح أسداً آخر، أكثر شراسة. لكن ملامح من ذلك المسار تتبدى جلية في المشهد السوري الراهن، خاصة في جانب المناطق الخارجة عن سيطرة النظام. إذ يبدو أن هناك العديد من النماذج "الأسدية" المُستنسخة، التي قد تكون صورة "الخليفة البغدادي"، أكثرها تجلياً، لكنه ليس الوحيد بينها.

وفي الحيثية الأخيرة، تكمن روعة ما كتبه البريطاني جورج أورويل، منذ أكثر من سبعة عقود، وكأنه قاعدة في معظم الثورات. فالحركات السياسية والاجتماعية التي تُطيح بالحكومات المستبدة، تقع لاحقاً، وفي وقت سريع للغاية، في كبوات السلطة السابقة ذاتها، من فساد وقهر. وتستخدم أساليب عنيفة وقهرية للاحتفاظ بما اكتسبته من نفوذ وسلطة.

لكن لماذا تؤول معظم الثورات إلى حالة كهذه؟الجواب ببساطة حسب ما تُوحي به رواية أورويل، "مزرعة الحيوان"، يكمن في خمس سلبيات تتحول إلى نقائص في قادة الحراك الثوري، وهي، الانحراف، اللامبالاة، الجهل، الطمع، وقصر النظر.

وإذا كان يمكن إرجاع سلبيات كاللامبالاة والجهل وقصر النظر، إلى حسن نية سلبي، فإن سلبِيَتَيْ الانحراف والطمع، اللتين تتبديان جلياً في معظم قيادات الثورات، في معظم التجارب التاريخية، بما فيها التجربة السورية الراهنة، تؤديان إلى الوقوع في فظائع، تحوّل "يوتيوبيا الثورة" (الحلم)، إلى دستوبيا (كابوس مرعب).

هكذا حدث في تجربة الثورة الفرنسية الشهيرة، وكذلك في تجارب ثورية سبقتها، كالثورة الإنكليزية عام 1742. كذلك في مآلات الثورة البلشفية. لكن في نهاية المطاف، فإن فساد الثورة على أيدي قادتها، هي نقيصة في الثورة، لا تعيب فعل الثورة ذاته. وهو أمر يعتقد مؤرخون أن جورج أورويل، لطالما كان يؤمن به، رغم غلبة خيبة الأمل على قراءته الروائية للتجربة الثورية.

لكن، هل الصفات الشخصية، من انحراف وطمع ولامبالاة وجهل وقصر النظر، هي وحدها التي تقود إلى فساد الثورة؟ يجزم جورج أورويل في رائعته الأدبية، "مزرعة الحيوان"، بأن سمة "الدوغمائية"، هي إحدى السمات القاتلة لفعل الثورة، إن وصمت بنية التفكير لدى الثائرين. فالدوغمائية، بما فيها من تعصب وتطرف للفكرة التي تؤمن بها مجموعة، دون الاستعداد للنقاش حولها، أو فيها، تشكل البنية الموضوعية لترسيخ فساد الثورة، والارتداد مرة أخرى إلى عهود الاستبداد.

سمة أخرى تُتيح إمكانية فساد الثورة، حسب أورويل. لكنها تخص هذه المرة الحاضنة الاجتماعية للثائرين تحديداً. تلك الحاضنة التي حينما تُبدي حالة من الاستسلام الكلي لما يُمارس ضدها من صنوف القهر والظلم، من قادة الثورة هذه المرة، تمهد الطريق لعودة الاستبداد من جديد.

أما أقصى مثالب البنية الفكرية للثائرين، التي تقود إلى خاتمة مريرة لهم، ولحواضنهم، هي تشكيل هوية الثورة، لا على أساس النظر لأهداف المجتمعات الثائرة وحاجاتها ومصالحها، بل على أساس منابذة الخصم، وإلغاء كل ما يمت إليه بصلة. وكم يظهر ذلك الإسقاط جلياً في الحالة السورية. إذ لم يعد الثائرون يعتبرون الحرية والكرامة لكل السوريين، غايتهم. بقدر ما باتت منابذة نظام الأسد، وإلغاء كل ما يمت إليه بصلة، حتى لو كان فيه صالح الجمهور والعامة، هو الغاية والدليل على الثورية والإخلاص لفعل الثورة.

في الخاتمة، لا بُد من التوضيح، أن ما سبق من إسقاطات، لا تعني أن كاتب هذه السطور ينال من فعل الثورة السورية، ويُبرئ جانب الطاغية بشار الأسد، بل على العكس. هو في نهاية المطاف، يُذكّر، بأن المخاضات العصيبة التي تحياها الثورة السورية اليوم، والتي يتحمل رموزها وقادتها، السياسيون والميدانيون، والإعلاميون، منهم، الجانب الأكبر من مسؤوليتها، هي فعل الثورة بذاته. فهي درس كاشف لكل السوريين. درس يؤسس للمستقبل بخبرة سياسية ناضجة، قد تقود في وقت قريب إلى منحى إيجابي في مسارات الثورة القائمة اليوم. أو قد تقود، في وقت أبعد، إلى ثورة أخرى أكثر نضجاً، بناء على التجربة المُختمرة لدى أجيال المستقبل القريب.

لكن في نهاية المطاف، رغم حجم الألم في التجربة السورية، يبقى أن الفعل الذي بدأ في آذار عام 2011، بحُلُمٍ، يملك قدرة التأثير الدائمة على استنهاض حُلُمٍ جديدٍ، في أمد قريب كان، أو ربما بعيد.. لكن على أيدي نخب ثورية جديدة، مختلفة عن تلك التي انساقت إلى عورات السلطة والاستبداد، ذاتها، التي ثار السوريون ضدها، في بدايات حُلمِهم الجميل.





increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها