الثلاثاء 2016/09/27

آخر تحديث: 10:51 (بيروت)

شراكة الضحايا

الثلاثاء 2016/09/27
increase حجم الخط decrease
في كلمته خلال حفلة افتتاح مشروع "بشاير الخير" بمنطقة غيط العنب، أعاد الرئيس المصري التأكيد على جملة من محاور خطابه السياسي المعتاد. فبين التهديد المبطن بإنهيار الدولة، وأن تصبح مصر "دولة لاجئين"، والتأكيد على جاهزية الجيش للانتشار خلال ست ساعات لحماية الدولة، لا يكتفي السيسي بالتهديد، بل يسهب كالعادة في تعداد الإنجازات التي تحققت، ودعوة المصريين إلى الأمل. وفيما يدعو الرئيس إلى "تحطيم البيروقراطية" ومعها "كسر القواعد" في سبيل الإنجازات الكبرى، فإنه يقترح حلولاً غير تقليدية للمساهمة في المشاريع القومية. فبعد دعوة "صبّح على مصر بجنيه"، يعلن الرئيس عن "مبادرة الفكة"، داعياً إلى التبرع بفكة المعاملات البنكية لصالح المشاريع التنموية. وبالرغم من أن المبادرة التي قدّر لها الرئيس جمع مبلغ شديد التواضع (من 10 إلى 12 مليون جنيه)، نالت ثناء عدد من البرلمانيين، من ضمنهم الدكتور هشام عمارة، عضو لجنة الشؤون الاقتصادية في مجلس النواب، الذي صرّح بأن المبادرة كفيلة بتطوير أربع مناطق عشوائية سنوياً، إلا أن رئيس حزب "السادات الديموقراطي"، الدكتور عفت السادات، كان الأقدر على تفهم مغزى المبادرة، والتي وصفها بـ"الطلب المعنوي" و"رسالة لجموع المواطنين.. ليساهموا في عملية التنمية". 

تبدو قراءة السادات، الأكثر منطقية في سياق الخطاب إجمالاً، والذي أكد فيه السيسي أكثر من مرة على دور المشاركة المجتمعية. ففي تناوله لقضية الهجرة "غير الشرعية"، صرّح الرئيس بأن الدولة لا تستطيع السيطرة على الحدود بنسبة مئة في المئة من دون مساهمة المجتمع. وفي سياق إحتفائه بتراجع نسب الإصابة بفيروس سي، أثنى على عمل منظمات المجتمع المدني، جنباً إلى جنب مع الدولة، في سبيل تحقيق هذا الإنجاز. وعند دعوته الى مبادرة الفكة، اقترح توجيهها إلى الجمعيات الخيرية، وأشار إلى دور رجال الأعمال والمستثمرين، والذين وصفهم "بالذراع الأخرى"، إضافة إلى "ذراع الدولة". وبالرغم من أن دعوة الرئيس التي وجهها إلى "كل المصريين للمجتمع كله، للجمعيات الخيرية... لرجال الأعمال... للحكومة"، للعمل يداً بيد، تبدو منطقية وتستحق الثناء، لكنها أيضا تثير العديد من الأسئلة.. 

فلماذا يطلق الرئيس مبادرة الفكة "المعنوية"، فيما تمتلك الدولة أدوات قانونية مباشرة لتنظيمه؟ أليس من حق الدولة، بل من صميم وظيفتها، فرض الضرائب وتحصيل الرسوم على الدخول والمعاملات البنكية وغيرها لتمويل مشاريعها التنموية؟ وكيف تستقيم دعوة المجتمع المدني للمساهمة في التنمية، بينما تُحاصر منظماته بترسانة من القوانين التعجيزية، وتُغلق المئات منها تباعاً، ويزج بالعاملين فيها في السجون، وتتوالى على القائمين عليها أحكام المنع من السفر وتجميد الأرصدة؟

وإذ تقودنا الإجابة على تلك الأسئلة إلى تبيّن عدم جدية تلك المبادرات ودعوات المشاركة المجتمعية، وتعارضها مع سياسات النظام على أرض الواقع، فإنها تكشف أيضاً أهدافها الضمنية. فالرئيس يدرك أن خطاباً سياسياً تعبوياً، يستلزم إيهاماً زائفاً بالمشاركة الشعبية. وفي ظل حرمان المواطنين فعلياً من المشاركة في اتخاذ القرارات، وغياب أي مساحة حقيقية للحوار المجتمعي حول أولويات الدولة أو حول الرقابة على الأداء الحكومي، فإن المشاركة المجتمعية يتم إختزالها في شراكة التبرع، والحرية المتاحة هي حرية المواطنين في توجيه تبرعاتهم إلى صندوق "تحيا مصر" أو الجمعيات الخيرية.

ولا تنحصر فاعلية خطاب التشاركية، في التبرع والعمل الخيري، في إيهام المواطنين بأن المجتمع ندّ للدولة، وأن لديه أسهماً معنوية ومادية في مشاريعها وإنجازاتها. بل تمتد إلى زجّه في تضامن ضمني مع النظام، والتوحد معه، عبر مشاركته المقيدة بأولوياته، وتوريطه في تحمل نصيب من اللوم على تبعات المستقبل، وهو المحروم في الحقيقة من تقريره.

يظهر لوم المجتمع بصورة أوضح، في تناول السيسي لمأساة غرقى رشيد. فمع نفيه لجوء الضحايا إلى الهجرة بسبب البطالة، وتأكيده على توافر الوظائف، وقيام المسؤولين بواجبهم تجاه المواطنين، فإنه يستنكر فعلة الضحايا الذين تركوا بلدهم، ودفعوا "مبالغ كبيرة" للتخلي عن بلدهم " الأولى بينا". وهكذا، فإن الضحايا ملامون على فعلتهم ومصيرهم، ومذنبون في حق وطنهم. كما أن الجيش يقوم بمجهود ضخم في ضبط الحدود لمنع الهجرة "غير الشرعية"، فيما يبدو المجتمع متخاذلاً في القيام بدوره في هذا الصدد، وفي حاجة إلى استنهاض الرئيس له.

وبالمثل، فإن فشل "مبادرة الفكّة" المتوقع، مثل ما سبقها من المبادرات الرئاسية الطوعية، لا يمكن تحميل أوزاره إلا للمواطنين الواجب عليهم حينها الشعور بالذنب على تراجع مجهودات التنمية، أو بأفضل حال لوم بعضهم البعض على تخاذلهم.

وبين لوم الضحايا، وتقريظ المجتمع على عدم القيام بدوره الذي يحدده له النظام، تبدو مبادرات الرئيس غير معنية بشراكة حقيقية للمواطنين، بل بتقرير فصل تعسفي بين الدولة والمجتمع، لا تكون الدولة فيه ممثلةً للمواطنين وقائمة على تنفيذ إرادتهم، بل هي كيان منفصل عنهم، يتيح لهم مشاركته في حدود بعينها وطبقاً لأولوياته، في شراكة تحتفظ فيها الدولة بالحق في مساءلة المجتمع، فيما تعمل بهمّة على "كسر القواعد" في سبيل الإنجاز. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها