الخميس 2016/07/07

آخر تحديث: 08:57 (بيروت)

مواصفات العنصرية اللبنانية

الخميس 2016/07/07
increase حجم الخط decrease
بيروت، عند تقاطع الأونيسكو - كورنيش المزرعة، في نهاية النهار. أمشي وأنا منجذبة من بعيد لكتلة بشرية متراصة. أقترب منها. أكثر من عشرة رجال، ربما أربعة عشر. واضح أنهم عمال بناء سوريون: لا أحتاج إلى سماع لهجتهم. يكفي هندامهم، المنهك، الفقير، صنادلهم، بقع الدهان على ثياب بعضهم، والرثاثة في ثيابهم جميعاً. يمشون متكتّلين، كأنهم تدرّبوا على مشية بطيئة، متلاصقين، حماية لأنفسهم من الإستفراد، ربما. خائفون يبدون؛ لكنهم مطمئنون، نسبياً على ما أتصور، إلى عددهم، إلى حرارة أجسادهم. لذلك عندما يقف "الفان" ليقلّهم إلى مكانهم، يتعثّر أمرهم. "الفان" لا يستوعب كل هذا العدد. تصعد إليه غالبيتهم، ويبقى ثلاثة منهم في الخارج. لا يستوعبهم "الفان". لكنه لا ينطلق أيضاً. الثلاثة ما زالوا ملتصقين ببعضهم البعض، "الفان" لا يقلع. يتشاورون. الأرجح أن الذين وجدوا لأنفسهم مقاعد في "الفان" لا يريدون ان ينطلقوا من دون الثلاثة الباقين. مزيد من المشاورات. ثم أخذ وردّ، لا يدومان أكثر من دقائق. وبعد ذلك، يقرر سائق "الفان" أن يغامر، فيدخل الثلاثة إلى "الفان"، يحشرهم كيفما اتفق، يتّكل على الله بصوت مرتفع، أسمعه من قريب، ثم يتجه جنوباً بسرعة، كأنه يريد النفاذ بمخالفته الفاضحة، بتكديسه كل هؤلاء العمال السوريين في مركبته، وقد ضاقت بهم... كأنه يطمح بذلك إلى النجاة من غرامة المخالفة، لو وقع على غير إبن عمته، شرطي السير في دائرة قريبة منه. 

نسيتُ أن أقول أنني عرفت انهم سوريون قبل أن أسمع لهجتهم. فوق هندامهم الفقير، تبقى عيونهم أشد دلالة عليهم: مرهقون، هائمون، ملسوعون، مجروحون. في كل نظرة مئة سؤال، وجبل من الخوف السديمي. هؤلاء السوريون الذين تلقاهم في شوارع بيروت، خائفون. لا يحتاجون إلى مخيمات إيواء ليعرفوا ما يصيب أقرانهم.

قبل مجزرة القاع، تجدّدت حملة عنصرية ضدهم، قادها الوزير المعجزة، جبران باسيل، ظناً منه بأنه يكسب؛ وقد يكون على حق. فالشعب اللبناني ليس أقل طائفية، أو عنصرية، من الذين أوجدتهم الصدفة السعيدة على رأس مؤسساته المهترئة. أما بعد مجزرة القاع، فانطلقت "الورشة"، وأعلنت بلديات بعينها إجراءات تنال من أدنى حقوق اللاجىء، من حقه بالتنقل والعمل، لتمسْمره في مكانه الهشّ: إسمه "مخيم"، احتراماً لما تبقى من اللغة، فيما هو عبارة عن تجمعات عشوائية، لم تتدخل أي مؤسسة رسمية لتنظيم شؤونها، إنما فقط للسؤال عن "البزنس" الذي قد تمرره عبرها المؤسسات الدولية...

المهم؛ أن قرارات البلديات العنصرية رافقتها مداهمات للجيش لهذه التجمعات، جسدت نظرية الدائرة المغلقة بأبهى اشكالها: فهذه "الدولة" التي ترفض ان تعطي اللاجئ السوري أوراق إقامة، تلك الورقة الملزمة بناء على اتفاقيات وقعت عليها، والتي تحميه من المساءلة عند الحواجز الثاتبة والطيارة... هذه "الدولة" نفسها، يداهم جيشها هذه التجمعات، بلا رقيب ولا حسيب على تجاوزاته "البسيطة": يعتقل من يطيب له من اللاجئين، يزيح المحظوظين القليلين الذين حصلوا على إقامة؛ يبهدل، يرفس، يشتم، يضرب مَن لم يحصلوا عليها، ثم يخلي سبيلهم بعد ذلك، ليبقوا تحت رحمة اعتقال لاحق، بُعيد تفجير إرهابي، أو من دونه. وبذلك يُظلم اللاجئون السوريون مرتين: مرة لأن "الدولة" اللبنانية لم تسجل إقامتهم، ومرة أخرى عندما يُعتقلون بحجة عدم حيازتهم أوراق الإقامة هذه: دولة سائبة، تحمِّل أضعف مخلوقات الله تبعات فوضاها الرهيبة؛ ليس في الأوراق وحسب، إنما أيضا بترك اللاجئين لمصيرهم والإكتفاء بالتفرّغ لـ"بزنس" المساعدات القليلة الآتية إليهم.

اللبنانيون عنصريون بغالبيتهم. ولن تجتهد كثيراً لإيجاد الجذر المؤسس لتلك العنصرية. انه نظامهم الطائفي الذي يشتمونه ليل نهار، من دون ان ينتبهوا إلى عمق تغلْغله في أعماق أرواحهم. انهم طائفيون، مذهبيون، مناطقيون، عتاة التفرقة على أساس الإختلاف. إلا إختلاف واحد، هو الثراء. السوريون الأثرياء القليلون الذين تصادفهم في بيروت، لا تبدو عليهم ملامح وملابس غالبية السوريين في لبنان، أي اللاجئين. لا يحتاجون إلى "الفان" للتنقل. سياراتهم الفارهة تتكلم عنهم. لذلك يُستقبلون كالأمراء. فقط لأنهم يشغّلون، لا يشتغلون. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها