الأحد 2016/07/24

آخر تحديث: 08:58 (بيروت)

الشهيد الذبيح عبد الله عيسى

الأحد 2016/07/24
increase حجم الخط decrease

وحدها القلوب الفارغة يمكنها أن تحتمل الشريط الأخير لمجموعة "نور الدين زنكي"، "المعتدلة"، التابعة لـ"الجيش الحرّ": طفلٌ مرمي على ظهر شاحنة نقل صغيرة مكشوفة، خائر القوى، مجبّر الساق اليسرى، يحمل إبرة مصل في يده اليمنى. يكاد يفهم ما يحصل له، يداعب مسلح خدّه، بلذة وسخرية، يبتهج حوله مسلحون آخرون وهم يستمعون إلى "البيان" الذي يطلقه مسلح آخر، من انهم قرروا قطع رأس الطفل الفلسطيني عبد الله عيسى، لأنه يقاتل إلى جانب الصفوف المعادية. ثم ننتقل إلى "النهاية"، على حافة الشاحنة نفسها، يهلّل من حولها بالرأس المقطوع الذي يرفعه الذابح عاليا كعلامة على الإنتصار. وتكبيييير...! وحدها القلوب الفارغة... لم أشأ البحث عن الشريط عندما سمعتُ بفحواه. لكن نشرة الأخبار في إحدى الأقنية اللبنانية شاءت ذلك، سعياً وراء "الأكثر مشاهدة". ففعلت، وأنا تورطتُ، وبقي الشريط في عقلي، يعاندني، لا يبارحني.

الضجة الإعلامية التي أثارها الشريط، وهي على كل حال متواضعة... هذه الضجة استوجبت رداً من مصادر المعارضة وإعلامها "الموازي". جاءت فيه التوضيحات الخبيثة، وكلها تقصد إبعاد كأس المحاسبة الفعلية عن المجموعة. وكل "توضيح" أقبح من ذنب، أقبح من الجريمة. فماذا كان مجمل قولها؟ ان الضحية ليس "طفلاً"، إنما عمره تسعة عشر سنة، وهو يبدو هزيلا ضامرا مثل طفل، لأنه مصاب بمرض التلاسيميا، وهو كان يتلقّى العلاج لحظة القبض عليه! ثم هو ليس بالفلسطيني، إنما سوري، يقاتل منذ زمن بعيد في صفوف الأسد! وان الإعلام الممانع استغل هذه الجريمة، وبدأ يزايد على المعارضة "المعتدلة"! ثم، أين هي هذه الجريمة إذا ما قيست بجرائم بشار؟ وروسيا؟ والميليشيات الإيرانية...؟ وعلى كل حال، المنظمة المرتكبة للجريمة أصدرت بيانا اعتذرت فيه عنها، ووعدت بالقيام بتحقيق، واكدت بأنها، أي الجريمة، هي فعل "أفراد"، ولم تكن بتوجيه من القيادة.

العناصر "التوضيحية" للمعارضة أرادت تكحيلها فأعمتها. كل المبررات، والردود الخافتة، المستحية، هي فضيحة أخلاقية موصوفة. ولكن المبرر الأخير هو فضيحة اخلاقية سياسية: "جريمة فردية" تحيلني أوتوماتيكياً إلى الحرب الأهلية اللبنانية، التي حولتها إلى كلمة سيئة السمعة. كان وقتها اسمها "عناصر غير منضبطة"، تعيث فسادا وخرابا، تفتك بالأهالي، تسرقهم، تقتلهم، تهينهم، تحتل بيوتهم... وفي آخر النهار، يطلع عليك المسؤول عنهم باعتذار إلى أولئك الأهالي، أصحاب القضية الواحدة، من تصرفات "العناصر غير المنضبطة" التي أجرمت علناً، وفي وضح النهار. بقينا على هذه الحالة، حتى انتهت الحرب، وطلع إلى الحكم أمراء وقادة "العناصر غير المنضبطة"، الورثة منهم والعصاميون. واليوم بعد ستة وعشرين عاماً على نهاية الحرب، تحولت "العناصر غير المنضبطة"، إلى معزوفة يومية، يغطي بها الأمراء المتحاصصون جرائم فجّة، لا يمكن إنكارها، بحق المواطنين خصوصاً.

لماذا تقف المعارضة السورية موقفا مائعا من جرائم فصائلها المسلحة؟ بالتأكيد هناك حيثيات تكتيكية واستراتيجية لستُ على بيّنة منها. ولكن، أيضاً، ومن بعيد، هناك شيء واضح على الأقل: في مجملها، تتعامل المعارضة السورية مع الحرب ضد بشار بلهفة واحدة: إسقاط بشار الآن. تتصور بأن تسلمها للسلطة قوب قوسين أو أدنى. وانها، من أجل ذلك، تعتقد بأنه من الحكمة ان تسكت عن عيوب الفصائل التي قد تكون موالية لها. ومن هذه العيوب جرائم تلك الفصائل المثبّتة بالصوت والصورة. بل حتى انها، لشدة تسرّعها بتسلم السلطة، تغزلت في بداية الحرب بـ"جبهة النصرة"؛ وبالتبريرات ذاتها، الماوية (ماو تسي تونغ)، والقائلة بإسكات التناقضات "الثانوية"، أي الجرائم المشهودة، من أجل الإنكباب على انجاح "الرئيسية"، أي اسقاط بشار؛ أو بالشعار الناصري الذائع "لا صوت يعلو...".

تنسى المعارضة أحيانا بأنها تنمو ويتشكل وعيها الجديد، شخصيتها الجديدة، أثناء معركتها ضد الطاغية. وبأنها إذا ما بقيت على ما هي عليه من طلب "الستْرة"، فسوف يكون مصيرها واحداً من اثنين، أو كلاهما: سوف تتحول إلى شيطان أخرس، يرى الشر ولا يفتح فمه. وسوف تخسر بالتالي قوتها الرئيسية، أي الأخلاق السياسية؛ تلك التي تسلحت بها عندما ثارت على بشار الأسد. وفوق ذلك، إذا انتهى بها المطاف الى سلام، فلن يكون أقل تشوّها من ذاك الذي أنجبته الحرب اللبنانية بطبقة تمكنت، وما زالت، من تدمير لبنان بأقل التكاليف الممكنة. ذبح عبد الله عيسى هو حجرة صغيرة في مدماك سوريا الذي ينطوي على مستقبل كهذا.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها