الأربعاء 2016/06/29

آخر تحديث: 00:24 (بيروت)

طمأنينة ألا يتغير شيء

الأربعاء 2016/06/29
increase حجم الخط decrease
كانت البطاقة الانتخابية قد وصلتنى قبل أيام من الاستفتاء البريطاني على الخروج/البقاء الأوروبي. وتضمنت البطاقة إرشادات عن مكان اللجنة الإنتخابية ومواعيد التصويت. وبعد إفطار متعجل، على غير عادتي، حملتُ بطاقة التصويت وجواز السفر البريطاني وبضع وثائق تثبت محل إقامتي، فلم أكن أعرف على وجه الدقة ما أحتاجه للتصويت، وهذه مشاركتي الأولى في أي انتخابات في بريطانيا. توجهتُ إلى اللجنة الإنتخابية التي تبعد عن منزلي بضعة أمتار، عازماً على أن أقرر خلال الدقائق القليلة التالية إن كنت سأصوّت لصالح البقاء أو الخروج من الإتحاد الأوروبي. لكن محاولتي المترددة لترتيب أفكاري، قاطعها المتطوعون الذين ظهروا على جانبي الطريق بمجرد خروجي من المنزل، محاولين إقناعي بالتوقف للحديث معهم. لم يكن إسراعي بتخطي أوّلهم، كافياً لإحباط حماسة المتطوعة الشقراء الواقفة على بعد خطوات منه، والتي سارعت لمناولتي شعار حملة البقاء مع ابتسامة واسعة.

في اللجنة، تجاهل الموظف المسؤول ذو الأصول الأفريقية، عرضي لإطلاعه على جواز سفري أو حتى البطاقة التي وصلتني بالبريد، قائلاً: أريد اسمك فقط.. وناوَلني استمارة التصويت بعدما شطب اسمي من الجدول الذي في يده. وبعد ثوان من التردد، وضعت العلامة لصالح البقاء، وانصرفت مستاءً من رضوخي لحملات التخويف التي قادتها المؤسسة السياسية وقطاع الأعمال والميديا من تغيير الوضع القائم، وقد ضاعت الفرصة الأخيرة للتعبير عن رفضي للطريقة التي تدار بها الأمور. حاولت التهوين على نفسي، بكتابة رسالة قصيرة لصديق يوناني مقيم في لندن: "صوّتُ لأجل خاطركم، رغماً عني، أريدكم هنا".

في صباح اليوم التالي، كنت قد نسيت الأمر برمته، فالأمر محسوم لصالح البقاء بلا أدنى شك.. حتى تلقيت رسالة على هاتفي، لم أفهم معناها في بادئ الأمر: "أحسنت، لكن للأسف هم لا يريدوننا هنا". تذكرت رسالة اليوم السابق، وفتحت موقع "بي بي سي". للحظات لم أفهم الكلمات الإنجليزية المكتوبة على الشاشة، قرأتها مرتين بصوت عال، وظلّت بلا معنى في ذهني. فتحت موقع "بي بي سي" باللغة العربية، كانت الكلمات مفهومة هذه المرة: صوّت البريطانيون لصالح الخروج من الإتحاد الأوروبي. 

احتاج الأمر بضعة أيام لفهم أبعاد ما تعنيه تلك الكلمات القليلة. يتجهز بعض الأصدقاء الأوروبيين للرحيل، والبعض الآخر يبدو غير مستعد بعد، لكنهم قلقون من المجهول الآتي. كل الفرص والاحتمالات والطموحات التي تقدمها حرية الحركة والإقامة والعمل والدراسة في دول الاتحاد الاوروبي، والتي كانت معطى بديهياً بالنسبة إلينا جميعا حتى أيام قليلة، اصبحت الآن غير ممكنة أو صعبة المنال في أفضل الأحوال. عالمنا أصبح ضيقاً جداً فجأة.

كاميرون يقدم استقالته، وثلث حكومة الظل العمالية تتمرد على زعيم الحزب وتقدم استقالتها أيضاً. تتحدث الصحف عن "إنقلاب" في حزب العمال، "الديموقراطيون الأحرار" يدعون لانتخابات مبكرة، ومسؤولو الاتحاد الأوروبي يدعون "لطلاق سريع". رئيسة الحكومة الاسكتلندية تعلن عن مفاوضات سريعة مع بروكسل، مضيفة: " ليس هناك من نخاطبه في ويستمنستر، هناك فراغ في السلطة". استفتاء جديد على انفصال اسكتلندا أصبح "محتملاً جداً. وِحدَة المملكة المتحدة على المحك. الإسبان يطالبون بسيادة مشتركة على جبل طارق، وقلق مكتوم في إيرلندا الشمالية من عودة العنف. أحزاب اليمين المتطرف الأوروبي تطالب باستفتاء مماثل في دولهم. الجبهة القومية الإنجليزية تخرج في مسيرة في "نيوكاسل" رافعة شعارات: "أوقفوا الهجرة، أبدأوا ترحيل الأجانب". جدران المركز الثقافي البولندي في لندن يتم تشويهها بشعارات عنصرية: "عودوا من حيث جئتم". زميلة يهودية تسألنا: "هل رأيتم شعار الصليب المعقوف الملصق على عمود الإنارة على بعد أمتار من المكتب؟". فيديو تنشره إحدى الصحف لناخب يقول: "لا نريد مسلمين ولا مهاجرين من أفريقيا أو آسيا، ليس لدي مشكلة مع الأوروبيين، هذا هو الأمر ببساطة".

ثلاثة ملايين توقيع على عريضة مطالبة بإعادة الاستفتاء، عضو عمالي بمجلس العموم يطالب بتجاهل نتيجة التصويت كلّية، وبضعة آلاف من التوقيعات مطالبة باستقلال لندن. الميديا تتكلم عن دلالات التصويت: انقسام عميق بين من صوتوا لصالح البقاء ومن صوتوا لصالح الخروج، صدع بين لندن واسكتلندا وإيرلندا الشمالية وبين بقية المملكة المتحدة، شق واسع بين الريف والحضر، بين الطبقة العاملة والطبقات الأعلى، بين أصحاب الشهادات الجامعية وغيرهم، بين جيل الشباب والأجيال الأكبر في السن. الساسة يدعون للهدوء والوحدة الوطنية، وزير المالية يطمئن الجميع بأن بريطانيا مستعدة لمواجهة الأيام المقبلة، لكن الإسترليني يهبط لأدنى قيمة له منذ عقود ثلاثة. أسواق الأسهم العالمية تهبط في هلع، بنك "إتش إس بي سي" يعلن نقل ألف وظيفة من لندن إلى باريس، واستطلاع يكشف أن خُمس شركات القطاع الخاص العاملة في بريطانيا ستجمد التوظيف إلى حين، ونسبة أقل تؤكد عزمها خفض العمالة.

مقالات الرأي في الصحف تحلل النتيجة: التصويت عقابي، البريطانيون يائسون من النخبة السياسية، من يملكون صوتوا للبقاء، ومن لا يملكون صوتوا للخروج، فليس لديهم ما يخسرونه، الانقسام الطبقي العنيف وسياسات العولمة والنيوليبرالية سحقت الطبقات الأدنى، التصويت تخريب واعٍ مِن الأغلبية ضد منظومة تفيد الأقلية ونخبتها المالية. المواقع اليسارية الراديكالية تحتفي بالنتيجة: "الفرصة سانحة أخيراً، لحرب طبقية مفتوحة". منابر اليمين تتحدث عن "خوف البريطانيين على هويتهم"، وتحتفل بـ"استعادة بريطانيا التي نعرفها"، "بريطانيا مستقلة مرة أخرى".

صباح اليوم، بدا كل شيء عادياً في مترو انفاق لندن، باستثناء بعض الوجوة القلقة. راكب يقول لرفيقه في أطمئنان: "لن يتغير شيء، سيظل الأوروبيون هنا، وسنستطيع أن نذهب إليهم، كل شيء سيبقى على حاله، سيجدون مَخرجاً ما". في العمل، توقف الجميع عن مناقشة الأمر، مشكلة الطابعة التي لا تعمل كانت موضوع اليوم.

أثناء استراحة منتصف النهار، هاتفني صديقي الماركسي من القاهرة، لينصحني بقراءة كتاب "مناخ العصر"، مؤكدا في ثقة أن سمير أمين كان على حق، تنبأ بكل شيء، العولمة والنيوليبرالية الجديدة والاقتصاد المعلوماتي.. كلها ستدفع بانهيار منظومتها، مضيفاً في حسرة بأن الكتاب يتوقع أن عجز مشروع اليسار سيدفع بالجماهير العاملة إلى العودة للانكفاء في الهويات القومية الضيقة، والأصولية الدينية في كل مكان. في نهاية المكالمة الطويلة، كان صديقي قد تراجع قليلاً: "النيوليبرالية شديدة المرونة، ستمتص الصدمة بعد قليل من الوقت، لن يتغير شيء، ربما في أفضل الأحوال سنعود لسياسات الاقتصاد الكينزي، إلى الثمانينيات وقبحها، تفهمني طبعاً!". وكان أكثر ما أزعجني في تلك المكالمة، هي تلك الطمأنينة التي منحتني إياها تأكيدات صديقي بأن شيئاً لن يتغير.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها