الثلاثاء 2016/12/13

آخر تحديث: 07:05 (بيروت)

في وداع العلماني المهاجر

الثلاثاء 2016/12/13
increase حجم الخط decrease

 

تعددت الهجرات، والموت واحد. كانت الهجرة الاخيرة هي الاصعب والأشقى. وهي التي بدأت منذ اكثر من نصف عقد او منذ نصف قرن. وثمة من يقول إنها انطلقت منذ لحظة الولادة، من حالة التمرد الاولى على الوجود والقيود. يومها خرج المهاجر من العائلة، ثم من المدينة، ثم من البلد، ثم من المشرق، ثم من الأمة.. ولم يعد. ولن يعود.

أسدل المنفى الالماني الستارة على سفر طويل، حط في جميع القارات وتنقل بين مختلف الثقافات والحضارات، حاملاً الاسئلة نفسها، حاصلاً على الاجوبة ذاتها، التي أضيف اليها جواب أخير عن إستحالة العودة الى مربع الطفولة والمراهقة والدراسة الاولى، وعن صعوبة تنظيم جنازة لائقة، وترتيب وداع مشرف ورثاء مكتمل، في المدينة المحاصرة التي كان من معالمها ورموزها ودلالات تاريخها العريق.

كانت الهجرة الاولى هي الأطرف والاكثر إثارة للحشرية. مغادرة الأصل الارستقراطي بدت أشبه بتطور طبيعي ، بالمقارنة مع مغامرات بالغة الجرأة، ساهمت في تشكيل شخصية لا تنسى، وفي تكوين إرث ثقافي لا يمحى، وفي بلورة فكر مهدد بالفعل بالنسيان او الزوال، لانه لم يعد يتلاءم مع ميول اجيال مشوهة أنجبتها الانهيارات والهزائم المتلاحقة التي كانت ولا تزال تشكل مرادف الوجود العربي وسمته الابرز طوال عقود طويلة.

لم تكن الهجرة الاخيرة الى المنفى الالماني نتيجة الثورة السورية، لكنها كانت حصيلتها، واحدة من علامات خيبتها الراهنة وإحباطها المقيم. سبق للمهاجر ان نُفي اكثر من مرة من وطنه الذي ضاق بأفكاره وأرائه ومواقفه. لكنه لم يسبق أن هاجر كثائر سياسي معلن على نظام لم ينتمِ اليه يوماً، وأصبح في السنوات الخمس الماضية من عناوين النكبة السورية، التي تمثلت بتوالد الاستبداد وتوارثه وتمدده الى مختلف زوايا المجتمع السوري وفرقه الاسلامية التي تتنافس مع النظام على الفاشية.

في المنفى، مات المهاجر السوري علمانياً مثلما ولد، في النصف الاول من القرن الماضي، عندما كانت العلمانية طموحاً مشروعاً وحلماً عربياً جميلاً يطور حركة النهضة ويكملها، وقبل أن تصبح الان عنوان مجموعة صغيرة مهددة بالانقراض من الصعاليك أو شذاذ الافاق، الذين يشعرون ان غربتهم تزداد قسوة يوماً بعد يوم، وهي التي تقف من جهة ضد أنظمة بلغت من الوحشية ما لا يوصف، ومن جهة اخرى ضد تنظيمات اسلامية بلغت من البربرية ما لا يحتمل.

ظل مفكراً متمرداً ومثقفاً مشاكساً، أميناً للفكرة الاصلية التي شوهت في الاونة الاخيرة على يد أصوليين علمانيين،لا يختلفون عن الداعشيين بشيء، سوى أنهم موضع ترحيب الغرب، وموقع رهان اسرائيل. وهم في ذلك انغماسيون حتى الموت.   

لم يخطىء يوماً في توصيف النظام، ولا في تحديد هويته الاخيرة المثيرة للجدل، والمستوحاة من التجربة اللبنانية. مثلما لم يخف يوما خشيته من الاسلاميين الذين ورثوا عن الثورة الاسلامية الاخيرة في اواخر سبعينات القرن الماضي، من الثقافة والتجربة ما يكفي لهدر دماء شعوب ودول وطوائف واقليات كاملة.

...

ليس من السهل ان يودع المرء جزءاً عزيزاً من ذاكرته، ليعترف ضمناً أنه بات على عتبة الاصابة بالالزهايمر، بالغربة الكاملة عن المحيط، بالانفصال التام عن الواقع. ليس من السهل ان يرثي جانباً مهماً من ثقافته، او ان يحرق زاوية غالية من مكتبته وكتبه، او ان يشطب جدالاته الاولى التي أثارها ذلك المهاجر السوري الابرز في كل ما كتب. 

في رحيل صادق جلال العظم، ما يستدعي الاقرار بان مساحة الوطن تصغر، ورحابة الفكر تضيق، وراية الثقافة تهبط، أكثر من أي وقت مضى. بشائر الربيع العربي التي هلّل لها الراحل، وإحتفى بقدومها الى سوريا، لم يعد لها أثر. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها