الأربعاء 2014/07/30

آخر تحديث: 19:16 (بيروت)

عن الإحباط السني

الأربعاء 2014/07/30
increase حجم الخط decrease

في العراق كما في لبنان وسورية، وكما في منطقة الشرق الأوسط ككل، يتخذ الصراع السياسي اليوم أكثر فأكثر شكلاً طائفياً صريحاً بين معسكر سني وآخر شيعي. ولكل معسكر دول وأحزاب وجماهير. صحيح أن الصراع المذهبي لا يمكن أن يشكل محتوى أي صراع سياسي، إذ لا وجود هاماً لصراع أفكار وتصورات وتحيزات ذهنية ما لم يكن ثمة محرك "مادي" أو واقعي ومصلحي وراءه. وصحيح أن الشكل الطائفي للصراع السياسي هو في الحقيقة تحوير لهذا الأخير إذ يحوله إلى صراع قطبي يطحن الناس على ضفتي الصراع دون أي حصيلة سياسية مفيدة. ولكن يتبين بالتجربة المتكررة أن للطائفية سلطان يعلو في كثير من الحالات على السلطان الطبقي والسياسي، فيندفع الفقير من مذهب معين لقتال شبيهه من المذهب الآخر كما لو أن هذا هو سبب فقره وبؤسه.

ويمكن القول إن الشكل الراهن لهذا الصراع الطائفي في منطقتنا، بدأ يتأسس مع بداية العام 1979 وسقوط نظام الشاه الإيراني على يد "ثورة إسلامية شيعية" انتهت إلى تأسيس دولة "ولاية الفقيه" التي بدت على أنها قطب شيعي مقابل السعودية التي تمثل القطب السني. بدأت "الجمهورية الإسلامية" بسياسة توسعية تحت مفهوم "تصدير الثورة"، السياسة التي كانت مسؤولة عن اندلاع حرب الخليج الأولى (الحرب العراقية الإيرانية) التي اندلعت في أيلول 1980.

في تلك الحرب اصطفت دول الخليج ، ولاسيما منها السعودية، مع نظام صدام حسين ضد نظام الخميني، في حين اصطف نظام حافظ الأسد مع نظام الخميني ضارباً بعرض الحائط قومية وعروبة حزب البعث العربي الاشتراكي. على أن الموقف السوري لم يكن حينها بلا سند "قومي عروبي" ذلك أن الثورة الإيرانية قامت فور انتصارها بإعلان موقف صارم معاد للولايات المتحدة الأمريكية "الإمبريالية" وبطرد السفير الإسرائيلي واستبداله بسفير فلسطيني، وإطلاق يوم القدس العالمي في آخر جمعة من شهر رمضان. أي إن الموقف الإيراني من القضية الفلسطينية شكل ركيزة "إيديولوجية" للموقف السوري من الحرب العراقية الإيرانية. "عندما تحولت إيران لنصرة فلسطين هاجمها نظام صدام حسين" تلك كانت لغة الإعلام السوري آنئذ.

لكن يبقى الطريق سالكاً أمام قراءة طائفية ترى أن دول الخليج (السنية) ناصرت نظام صدام حسين (السني)، فيما ناصر النظام السوري (العلوي) نظام الخميني (الشيعي). وفق هذه القراءة يبدو بالفعل أن النظام السوري رمى المشتركات السياسية مع النظام العراقي (بعثية، عروبية، اشتراكية ..الخ) لصالح المشترك الطائفي مع النظام الإيراني الوليد. وترى هذه القراءة أن التحول الإيراني الجذري تجاه القضية الفلسطينية ليس إلا غطاء أو تمويه على المضمون الطائفي للنوازع الإيرانية الشيعية وللتحيزات الطائفية للنظام السوري.

تعثرت هذه القراءة الطائفية مرتين قبل أن تنتعش اليوم مجدداً: الأولى، حين انقلبت دول الخليج على نظام صدام حسين عقب احتلاله الكويت وشاركت، إلى جانب النظام السوري أيضاً، فيما سمي "التحالف الثلاثيني" (ضم في الواقع 34 دولة) الذي قادته الولايات المتحدة وقام بعملية عسكرية واسعة سميت "عاصفة الصحراء" كانت نتيجتها "تحرير الكويت" من القوات العراقية، وتحجيم القوة العسكرية لنظام صدام حسين دون إسقاط هذا الأخير. في هذه الحرب التي سميت حرب الخليج الثانية، مني التحليل الطائفي بهزيمة أمام التحليل السياسي الذي يأخذ بالمصالح المادية أساساً له.

الثانية، عقب حرب الخليج الثالثة، وهي الحرب التي شنتها القوات الأمريكية والبريطانية (بمساهمة رمزية من بولونيا وأستراليا) على العراق لإسقاط نظام صدام حسين في ربيع 2003. عقب هذه الحرب، ساند النظام السوري (العلوي) الجماعات المسلحة (غالبيتها سنية) التي قاومت الاحتلال الأمريكي، وتقارب مع تنظيمات إسلامية سنية متطرفة بغرض إنهاك الجيش الأمريكي في العراق وقطع الطريق على استمرار عمليته العسكرية لتشمل سوريا كما هدد كولن باول (وزير الدفاع الأمريكي) دمشق آنئذ.

غير أن التحليل الطائفي استعاد عافيته مع التحول المتسارع الذي شهدته الثورة السورية نحو التسلح والأسلمة. بعد شهور قليلة من انطلاق الثورة السورية بدأ المشهد السياسي ينضوي في القالب الطائفي ويتناسب معه أكثر فأكثر. في الداخل انكفأت الأقليات الدينية والمذهبية عن المشاركة الواسعة في الثورة بالتناسب مع تزايد إسلاميتها، ثم بدأ الحراك ينزاح نحو أكثر أشكال الإسلام السياسي عنفاً وانغلاقاً وعدمية. كما تطابقت اللوحة الإقليمية مع خطوط الانقسام الطائفي، قوى إقليمية شيعية (إيران، حزب الله، ميليشيات شيعية عراقية، ..) تدعم النظام (العلوي)، مقابل قوى إقليمية سنية (تركيا، قطر، السعودية، ..) تدعم الحراك (السني). والواقع أن التحول "القاعدي" (المفتعل والمشغول عليه) الذي عاناه الحراك السوري شكل حلقة جديدة في سلسلة تعثر السنة في إيجاد تعبير سياسي سني يحوز على قبول عام ويتجاوز حدود المذهبية.

المشكلة أن الاستجابة السنية لما بدا أنه خطر شيعي متصاعد جاءت على شكل مذهبي صريح من جهة ومتطرف وعنيف من جهة أخرى، فكانت استجابة ضعيفة القبول حتى من قبل قطاع سني غير قليل، دع جانباً أبناء المذاهب الأخرى. وتصبح هذه المشكلة السنية أكبر على خلفية أن للهجوم الشيعي طابعاً عمومياً لا مذهبياً يتمثل في فكرة المقاومة ونصرة فلسطين وتحدي "الاستكبار العالمي". حتى في مرحلة الاحتلال الأمريكي للعراق حين تولى "العرب السنة" العمل المقاوم ضد القوات الأمريكية، سقط التعبير السني الأبرز حينها (التوحيد والجهاد) بزعامة ابي مصعب  الزرقاوي في مستنقع طائفي وجاهر بمذهبية منفرة حين اعتبر أن محاربة "الرافضة" أبدأ من محاربة الأمريكيين. في الوقت نفسه بدا أن الدولتين "السنيتين" الرئيسيتين تهادنان وتتخليان عن فلسطين وعن التنظيمات المقاومة لها حتى أنه جرى اتهام "حماس" بأنها "شيعية" فيما يشي بسيطرة شيعية على الشأن القومي الأول المتمثل في قضية فلسطين، وانسحاب سني منه.

على مدى أكثر من عقد من الزمان ظهرت تعبيرات سياسية سنية تحاول أن تستمد مشروعيتها من مذهبيتها، على عكس التعبيرات الشيعية. فمن الزرقاوي (التوحيد والجهاد) إلى شاكر العبسي (فتح الإسلام) إلى أحمد الأسير في صيدا في لبنان إلى جبهة النصرة ثم داعش .. الخ. تعبيرات أثقلت على ضمير السنة أكثر مما رفعت من شأنهم، وقادتهم من إحباط إلى إحباط. الدرس الذي ينبغي استخلاصه هو أن المذهبية لا تمنح مشروعية حتى للتعبيرات السياسية السنية ولو كان السنة يشكلون الغالبية الغالبة من الجمهور.

increase حجم الخط decrease