الخميس 2013/04/04

آخر تحديث: 14:36 (بيروت)

معضلة قانون الانتخاب

الخميس 2013/04/04
increase حجم الخط decrease
  في ما يتعدّى ما علّلت به مباشرة استقالة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، تبدو مسألة الانتخابات النيابية والقانون الذي يفترض أن يرعاها عقدة يتركّز فيها الاستعصاء العامّ الذي يعانيه النظام السياسي اللبناني في هذه المرحلة الحاضرة. فلو ان التقدّم بدا ممكناً نحو اعتماد قانون يرضي القوى السياسية الكبرى في البلاد لأمكن، مع اعتماد هذا القانون، وضع حدّ لمسار تلك الحكومة البائسة ومباشرة البحث في تشكيل حكومة تتولّى إجراء الانتخابات، تحت إشراف الهيئة المسؤولة، ولكان رحيل الحكومة الميقاتية يعدّ خروجاً، ولو مؤقّتاً، من المحنة التي مثّلتها أزمة العلاقات بين أطرافها وغلبة الشلل وتباين المسالك على أدائها وعرجها الطائفي الواضح.
ولكن الحاصل اليوم هو أن تأجيل الانتخابات النيابية أو تعذّر إجرائها في موعدها، بالأحرى، أصبح أمراً مقضيّاً بعد أن جُعِل أمراً واقعاً.. وأن هذا التأجيل قد يطول. فهو قد يبدأ بمهلة قصيرة تعتبر لازمة للحوار ثم لا يفضي الحوار إلى شيء لأن الحبكة التي أثمرت الاستعصاء لم يتغير فيها شيء أو هي لا تني تزداد إحكاماً. فتنتقل البلاد إلى تأجيل أطول مدّة للانتخابات على نحو عرفه اللبنانيون حقّ المعرفة في عقد ونصف عقد مشؤومين استغرقتهما حروبهم المديدة.
ما الذي يجعل التفاهم على قانون جديد للانتخاب مستصعباً إلى هذا الحدّ؟ نزعم أنه، من جهة الداخل، إفضاء الانتظام السياسي في البلاد، منذ أعوام الحرب، إلى نوع من الانحصار في تنظيمات ذات جمهور وحيد الصفة الطائفية. فإن هذه الحال قد أنشأت تلازماً بين كلّ من الطوائف الكبرى – كلّها أو جلّها – وحزب واحد أو اثنين يحتكران تمثيلها والمفاوضة باسمها. وهو ما صحبه انكفاء واسع النطاق لأدوار الزعامات غير الحزبية.. ولو ان الأحزاب الجديدة لبثت، في بعض الحالات، ملتئمة حول شخصيات أو حول عائلات تنتمي إليها الشخصيات.
ومن بين النتائج التي أدّت إليها عملية الضمّ والفرز هذه جعل نتائج الانتخابات قابلة للتوقّع في حال الأكثرية الساحقة من المقاعد. أدّت العملية نفسها إلى تيسير احتساب النصيب الذي تؤمنه كل صيغة محتملة لقانون الانتخاب لكلّ من التنظيمات المهيمنة على المشهد السياسي. وهو ما يجعل كلاً من هذه الصيغ تثمر خاسرين هنا ورابحين هناك ويجعل الرابح ينقلب خاسراً والخاسر رابحاً، ولو في حدود، إذا اعتمدت صيغة أخرى. ولما كانت مواضع الربح والخسارة معلومة سلفاً في كلّ حالة فإن التوافق على صيغة، مهما تكن، يضحي أمراً عويصاً للغاية. وذلك أن هذه الصيغة المرتجاة يجب أن تؤمن "الربح للجميع" على غرار ما كان يحصل في برنامج تلفزيوني فرنسي للأطفال كان يدعى "مدرسة الأنصار". و"الربح للجميع" يمكن العثور على صيغة تتيحه في اللَعِب ويتعذّر ذلك في الانتخابات.
ولا يصعب استقراء صور اتّخذتها هذه العقدة في المواقف التي توزّعت بينها قوى الطوائف أثناء الجدل الذي شهدته الأشهر القليلة الفائتة بصدد القانون الانتخابي. فإن ما أبداه التيار الحريري والحزب الجنبلاطي من معارضة للقاعدة النسبية يجد تفسيره الواضح في كون هاتين الجماعتين الغالبتين في دوائرهما لا تريدان من يقاسمهما مقاعدها. هذا فيما تبلغ قوة الثنائي الشيعي مبلغاً يبيح له قبول النسبية من غير أن يتكبّد خسارة تذكر لصالح الأقليّات المتناثرة في مناطقه. وأما الأحزاب المسيحية الكبيرة فيسعها أن تتوقّع، إذ تخوض الانتخابات بعضها في مواجهة بعض، نوعاً من التعادل التقريبي بين الربح والخسارة تأتي به القاعدة النسبية لكل منها. وهذا مع العلم أن هذه الأحزاب تمثّل استثناءً، وإن يكن محدوداً، إذ تشيل حظوظها وتحطّ أكثر من غيرها بحسب المزاج الناخب ويبرز نوع من الصعوبة في توقّع الأنصبة التي قد يحصل عليها كلّ منها في الكتل الناخبة المسيحية. 
يزيد من تلك الصعوبة (وهي نسبية) أن هذه الأحزاب، على كونها مسيحية، هي، على التقريب، الوحيدة الباقية على شيء من التعدّد الطائفي. فلا ننسَ أننا اعتدنا في الأعوام الأخيرة أن نميل عند ذكر المسيحيين إلى تناسي كون هؤلاء دستةَ طوائف لا طائفةً واحدة. وذاك أن شعورهم بما طرأ على المكانة التي كانوا يحتلونها من تراجع على غير صعيد، في ظروف الحرب وبعدها، نحا إلى تمويه الفواصل السياسية بين طوائفهم وإلى جعلهم يبدون وكأنهم طائفة واحدة. وهذا ظاهر له وجاهته ولكنه يصبح مخاتلاً، شيئاً ما، حين يتعلق الأمر بالسلوك الانتخابي. 
في الصدد نفسه، يتّضح معنى معارضة النواب المستقلين عن الأحزاب من المسيحيين لقانون اللقاء الأرثوذكسي: أي للدائرة الواحدة والقاعدة النسبية ولاستواء كل من الطوائف هيئة ناخبة منفصلة. فإن هذا المشروع يجعل مصير النوّاب المشار إليهم أشدّ تبعية للأحزاب المتحكمة بطوائفهم ويفتح الباب لها للاستغناء عن بعضهم إذا شاءت. وهو يحكم عليهم، فوق ذلك، بخسارة من كان يؤيدهم من الطوائف الأخرى في دوائرهم. وهذا تأييد أخذ يصبح في المرحلة الأخيرة أكثر تحسساً لإرادة الأحزاب الرئيسة لهذه الطوائف وقياداتها. 
على أن الأمر الأهم، منذ 2005 على الأقلّ، يبدو حساب الأكثرية والأقلية العامتين في مجلس النواب. فهو يعلو، بمعنىً ما، على حساب الأنصبة التي يُحتمل أن ينالها الأفرقاء كلّ على حدة. لذا تجد بعض القوى الطائفية الكبيرة نفسها محمولة، بما يشبه الإيثار غير المالوف في السلوك الانتخابي، على مدراة ما يراه هذا أو ذاك من حلفائها الثابتين مصلحة له. وهي تقبل هذه المدارة لتحصل، في الحساب العام، على أكثرية، تؤمّن لها، لا الوصول إلى الحكم وحسب، بل تصدّر الحكم والتحكّم به إلى أقصى حدّ متاح. 
هذا الاستعصاء الذي يحول اليوم دون الاتفاق على قانون للانتخاب ترضى به القوى الطائفية الكبيرة، كان يجد له حلاً في العهد السوري هو ما تمليه إرادة الحكَم صاحب السلطان. وقبل مرحلة الحرب، كان اختيار صيغة لقانون الانتخابات يقع في يد رئيس الجمهورية ويمثّل مظهراً رئيساً من مظاهر قبضه  على مقاليد التحكيم، في البلاد، وسبيلاً إلى هذا القبض. وقد كان إفراط الرئيس في ممارسته هذه السلطة، في بعض الدورات، واحداً من عوامل أفضت إلى خلل كبير في الوضع السياسي العامّ في البلاد. ثم أصبحت هذه الممارسة متعذّرة بعد الحرب وأخذ يباشرها، على ما سبقت الإشارة إليه، المفوّض السامي السوري. وحين رحل هذا الأخير، لم تعد سلطة التحكيم إلى يد الرئاسة الأولى. فإن عودتها باتت محالاً، لا بحكم الدستور وحده (وهو يقبل التعديل)، بل بحكم ملازمة الصفة الطائفية للرئاسات الثلاث، أوّلاً، وما باتت تمثّله هذه الصفة، بعد الحرب، من تثليث أو تربيع طائفي، رجراجٍ وغير مؤسّسي، معلنٍ أو مكتوم، للسلطات كلها.  
وفي انتخابات 2005 التي تبعت خروج القوّات السورية من البلاد مباشرة، اعتُمد في ذروة الاستقطاب بين التكتلين الشهيرين علاجٌ عجيب هو الحلف الرباعي الذي عامل هذين التكتلين وكأنهما غير موجودين في الانتخابات. كانت لا تزال توجد، إذ ذاك، جسورٌ في المجال الإقليمي تبيح، وإن تكن مهتزّة، سلوكَ مثل هذا المخرج.  وفي سنة 2009، جرى الارتداد إلى ما يسمّى "قانون الستين" بفعل إرادة خارجية جامعة مثّلها مؤتمر الدوحة. هذه الإرادة هي التي تبدو اليوم عزيزة المنال جداً، في ظرف الصراع في سورية والصراع عليها. فيبدو أطراف الساحة اللبنانية أهون شأناً وأضيق حيلة من أن يقووا على اتّخاذ قرار بمفردهم في شأن يفترض، في المبدإ، ألا يخصّ سواهم. هذا كله لا يحمل على التفاؤل بخير لمستقبل المؤسسات السياسية في البلاد. ولا نقول شيئاً الآن عن مستقبل البلاد نفسها دولةً ونظاماً. 
 
increase حجم الخط decrease