الخميس 2013/02/07

آخر تحديث: 06:32 (بيروت)

محنة الزواج في مجتمع مزدوج

الخميس 2013/02/07
increase حجم الخط decrease
كان لطفاً من  مفتي الجمهورية محمد رشيد قباني أنه لم يهدّد المسلمين من المسؤولين اللبنانيين بإرسالهم، بأمر منه، إلى المقابر على ما تبيح له أن يفعل أحكام الردّة التي رشقهم بها إن هم أسهموا في تشريع الزواج المدني. كان كرماً منه وتسامحاً أنه، عوض إنذارهم بإهدار دمائهم، لوّح لهم بمفاتيح المقابر التي هو القابض عليها جميعاً، مكتفياً بتهديدهم، خلافاً لذلك، بأنه سيحول بينهم وبين دخول المدافن جثثاً وأن في وسعه أن يدع الدود يباشر أكل جيفهم في الهواء الطلق. الرجل الخائف على ما في يده من سلطان على الحياة الأولى وغير المكتفي أصلاً بنصيبه منه، إنكفأ إلى سلطانه على الموتى. فإنْ فتَح الساسة، أحياءً، باباً للزواج المدني أَغْلَق في وجوههم، أمواتاً، باب المقبرة.
كان المفتي، في فتواه الأخيرة هذه، أميناً لسنّة استنّها لنفسه منذ الأزمة التي أثارها مشروع القانون الاختياري للأحوال الشخصية الذي قدّمه رئيس الجمهورية إلياس الهراوي في سنة 1998. ففي كلام له نشرته الصحف في 30 آذار من تلك السنة، إدّعى المفتي أن لكلّ رئيس من رؤساء الملل الحقّ في "الرئاسة" على الرئيس الزمني الذي من ملّته وعلى سائر المسؤولين السياسيين فيها... والراجح أن مراد المفتي لم يكن إذ ذاك أن يستوي رئيساً لرئيس مجلس الوزراء رفيق الحريري. فإن ميزان القوى بين الشخصيتين ما كان ليبيح له مثل هذا الزعم وكانت دلائل هذا التعذّر كثيرة.
الراجح أن المفتي إنما أراد أن يدعم برئاسته "الروحية" هذه رفض الحريري القاطع للمشروع. وهو رفض حمل الرجل على الامتناع، خلافاً للعرف وللأصول، عن توقيع مشروع أقرّه مجلس الوزراء بالأكثرية لتستقيم إحالته إلى مجلس النواب. وكانت تجمع الرجلين أمور ومصالح كثيرة أهمّها، على الإطلاق، كسب الرضا السعودي. فإن المقاومة السعودية لعصف الرياح العلمانية في صفوف السنّة اللبنانيين ولالتحاق لبنان بالصف المدني في موضوع التشريع للأحوال الشخصية إنما هو، ولا ريب، أبرز العوامل التي تملي هذه الحدّة المنكرة في رفض المراجع السنية لأي بحث في الموضوع.
ولقد عبّرت هذه المقاومة السعودية عن نفسها، سنة 1998، في خطوة مباشرة لا سابق لها هي إصدار اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، ويرئسها مفتي المملكة، بياناً تناول مشروع الهراوي بالإسم معلناً أن الزواج المدني "لا يترتّب عليه شيء من أحكام الزواج الشرعي، من حِلّ الوطء والتوارث وإلحاق الأولاد وغير ذلك"!! تلك كانت إشارة إلى دور لبنان، بما هو مرآة ومختبر، في حفظ موازين عربية كبرى، مرئية وغير مرئية، أو في تعريضها للمحن.    
ولم تكن مواقف رؤساء الملل اللبنانيين من مشروع القانون ذاك قد خلت من التباين. أمكن أن يصدر المفتي قباني والشيخ محمد مهدي شمس الدين رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى آنذاك بياناً مشتركاً أنكرا فيه أن يكون الزواج المدني الاختياري "يعزّز التلاحم الوطني أو يحقق السيادة الوطنية"!! ولكن شمس الدين الذي كانت مرجعيات شيعية أخرى، دينية وزمنية، تناصبه العداء وتفيض عن نطاق سلطته من كل حدب وصوب لم يذهب إلى حدّ ادّعاء "الرئاسة" على الرؤساء والمسؤولين من طائفته جميعاً. وإنما اكتفى بإنكار أن يكون للدولة حقّ التشريع أصلاً في ميدان الأحوال الشخصية زاعماً للطوائف حقاً حصرياً في هذا الباب. ذاك ما يعود إليه بيان المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الصادر توّاً بصدد المواجهة الراهنة. والسند في الحالتين تأويل متهافت لمادة من الدستور يجعلها تفيد الحصر بالسلطة الطائفية، فيما هي لا تحجب حقّ السلطة العامة قطعاً. مع ذلك يسجل للبيان الشيعي أنه لم يجنح إلى التهديد بنار جهنم وأبقى باباً شبه مفتوح لحوارٍ ما.
في معركة التسعينات أيضاً، كان بعض التراخي في رفض المشروع من جهة المراجع الملّية المسيحية يثير حنق الأقران المسلمين. فقد تكرّر على لسان بطريرك الموارنة وسواه كلام مفاده أن المرجعيات المسيحية لا يسعها الموافقة على المشروع ما دام المسلمون يرفضونه وذلك ضنّاً بالوحدة في هذا المضمار. وكان الشيخ شمس الدين قد تدرّج، من جهته، من الرفض المعتدل إلى الرفض المتشدّد للمشروع. وهو قد بدا، إلى حين، معوّلاً على تصدّر المراجع الكنسية صفوف الرافضين، فحمله تذرّع البطريرك الماروني بـ"مساندة المسلمين" على التذكير بأن المسيحية التي تعدّ الزواج سرّاً من أسرارها هي الأولى برفض المشروع المدني. وكان منه أن توجّه إلى الكنائس بالقول، في حديث متلفز، إن "هذا الموقف (...) موقف مسيحي إسلامي وقد يكون موقفاً مسيحياً قبل أن يكون إسلامياً (...) وهذه نقطة مركزية". على الإجمال، كان الرفض هو القوام الأصلب لموقف المرجعيات المذهبية، وذلك في ما يتعدّى مواقف مسيحية وإسلامية أبدت تقبلاً تباينت درجاته للمشروع... أو هي كانت (على غرار المطرانين غريغوار حدّاد وجورج خضر) قد حملت فكرته زمناً طويلاً قبل أن يطرحه رئيس الجمهورية.
وسواء أنظرنا في الصيغة "المسترئسة" التي اعتمدها المفتي قباني سنة 1998 (وما يزال مثابراً عليها اليوم) أم في صيغة "حصر الصلاحية" التي اعتمدها الشيخ شمس الدين، فإن مراد المراجع الملّية الأول تسوير حقل الأحوال الشخصية الذي لا تزال مهيمنة عليه تمهيداً لتوسيعه ما أمكن وحيث وحين يمكن. وإذا كان الطموح إلى توسيع دائرة النفوذ جارياً من عقود على قدم وساق فإن الاستبسال في ردّ الهجوم المدني عن "المنطقة المحرّرة" أصلاً لا يجوز أن يباغت أحداً.
من الدستور اللبناني إلى سائر مؤسسات الدولة والمجتمع في هذه البلاد، يتجاور مبدآن متنازعان: الطائفي والمدني. ويمثّل كلام المفتي قباني، أمس واليوم، طموح الأول لنهش الثاني والاستيلاء المتدرّج على ملاعبه. وذلك بأسلحة شتى من بينها سلاح الفتوى التي تتيح حمل المصلحة الطائفية على أنها إرادة إلهية وتبيح للملتحين من معمّمين ومقلنسين أن يتقدّموا الحليقين من أهل السياسة والسلطة في ميدان السياسة والسلطة نفسه. ويعلم أصحاب هذا الطموح أن الطريق أمامهم طويل. فإن المبدأ المدني الذي يدقّ باب الأحوال الشخصية مستقرّ في معظم تضاعيف الدولة الأخرى. هو مستقرّ هنا وهناك وهنالك خلافاً للشرع السماوي، في كثرة من الحالات. وذاك أن حضور الطائفي، في الدولة وفي كثير من مؤسسات المجتمع، يبقى حضوراً اجتماعياً – سياسياً ولا يجلب معه المضامين الدينية الموائمة له. الدولة اللبنانية ليست دولة دينية وتديّن المجتمع اللبناني نفسه أمر فيه نظر.
على ذلك، تدافع العمائم والقلانس عن المواطن التي في أيديها وتترك ما لقيصر لقيصر. حتى المفتي الذي يدلّ استرئاسه على أنه يبطن، في هذا المضمار، غير ما يعلن، يترك ما لقيصر لقيصر في مجالات لا تحصى. وهذا على الرغم من أن نوازعه "الشرعية" لا تزكّي له هذا الترك. ولكن استمرار هذه العفّة رهن بمقاومة مدنية يجب أن تشتدّ لا أن تضعف وبميزان قوى يحتاج إلى جهود تؤيّد رجحان كفّته المدنية وتزيد منه.

 
increase حجم الخط decrease