السبت 2015/01/24

آخر تحديث: 13:46 (بيروت)

بعد الشطرنج:معانٍ جديدة لفوز الكومبيوتر على الإنسان في البوكر!

السبت 2015/01/24
بعد الشطرنج:معانٍ جديدة لفوز الكومبيوتر على الإنسان في البوكر!
increase حجم الخط decrease

قبل أن يشهق أحد باستغراب، يجب قول عبارة ليست غريبة: البشر هُزموا أمام الكومبيوتر تكراراً ومراراً، وفي الأرض كما في السماء! وليست هزيمتهم في البوكر (poker) في مستهل العام 2015، سوى حلقة جديدة من مسلسل طويل، ربما يفوق عددا،ً حلقات المسلسلات المكسيكية والتركيّة سويّة. ويزيد من فداحة الهزيمة أن الفوز في البوكر يقتضي توافر نوع من الذكاء لم يكن معتقداً من قبل أن الكومبيوتر يستطيع التأقلم معه.

الشطرنج بداية الهزائم
قبل الحديث عن البوكر، أول ما يرد إلى الذهن هي الهزيمة المدويّة لبطل الشطرنج الأسطوري غاري كاسباروف أمام الكومبيوتر "ديب بلو" في العام 1997. كسب الكومبيوتر جولة أولى في العام 1996، دخلت التاريخ تحت إسم "غايم 1"  Game 1. واستطاع كاسباروف تدارك هزيمته، لكن الفرحة لم تدم طويلاً. وبعد سلسلة من الجولات، سجّل الكومبيوتر فوزاً ساحقاً. إذ لم يكتف بهزيمة البطل الأسطوري كاسباروف، بل إن جولة الفوز في آخر المباراة دامت أقل من ساعة، ولم يحتج الكومبيوتر سوى 17 نقلة ليهزم أحد ألمع أبطال البشر في تاريخ الشطرنج.

حينها، سارع منظّرو الهزائم (يبدو أنهم ليسوا حصراً في عوالم السياسة العربيّة!)، لتبرير الهزيمة، بمعنى نفيها وتتفيهها. وأثناء مؤتمر عقده قسم البحوث والتطوير في شركة مايكروسوفت في العام 2001، ارتفعت أصوات بعض الاختصاصيين لتقول أن الشطرنج ليس مقياساً لذكاء البشر، بل إنه لا يمثّل سوى جانب ضيّق وتكراري و"ميكانيكي" منه. وكان القصد من ذلك أن الشطرنج يخضع لمعادلات حسابيّة صارمة، لكنها محدودة العدد. ولا يستخدم من الذكاء سوى حساب الخانات والمربعات والخطوط والحجارة والنقلات، ثم تكرار الحساب مراراً وتكراراً عند كل نقلة! ويتضمن ذكاء البشر أشياء من نوع ابتكار ما هو غير موجود، والحدس بما لا يظهر في الحساب والمعادلات، إضافة الى الذكاء العاطفي والتواصلي وغيرها.

لم تطل تلك التبريرات الهزائميّة طويلاً، بغض النظر عن صحتها، لأنها ليست غير واقعية كليّاً، بل تعبّر عن مدى تعقيد ظاهرة الذكاء البشري.

وسرعان ما تبيّن أن هزيمة الإنسان أمام الكومبيوتر في الشطرنج لم تكن سوى مطلع لنشيد هزائمي طويل. وسرعان ما تكرّرت معزوفة الهزائم، أمام شاشات التلفزيون هذه المرّة، عندما تغلّب الكومبيوتر "واطسون" على منافسيه البشر في برنامج مسابقة معلومات مسليّة يشتهر أميركيّاً بإسم "جيوباردي"  Jeopardy. وفاز "واطسون" في المسابقة للمرة الأولى في 2004، لكن فوزه في العام 2013 أدخله موسوعة "غينيس" بوصفه "الأكثر ربحاً لأموال مسابقات التلفزيون".

وتختلف نوعية الذكاء المطلوب للفوز بمسابقة "جيوباردي" بأنها لا تقتصر على اختزان المعلومات (وهو أمر بديهي أن تتفوّق فيه الآلات الإلكترونيّة)، لكنها تتضمّن استعمال تلك المعلومات بطرق متنوّعة، تصل أحياناً إلى الحدس والتخمين! إضافة إلى ذلك، تتطلب الأسئلة في "جيوبارودي"، وهي سهلة تماماً بالنسبة للبشر، فهم السياق التواصلي الذي تأتي فيه المعلومات والكلام المعبر عنها أثناء عملية التواصل.

ولأزمنة طويلة، ساد تفكير بأن تلك المزايا بعيدة من الكومبيوتر، بل إن الاختبار المعروف بإسم "اختبار تورينغ"، يدور حول الأسئلة البسيطة التي يفهمها البشر بديهيّاً كما يدركون سياقها من دون أن يشرح لهم ذلك، عبر فهم سياق التواصل الذي تجري فيه. وباختصار، يتضمن الذكاء المطلوب للفوز بمسابقة "جيوبارودي" أنواعاً من الذكاء لم يتضمّنها الفوز بالشطرنج. وحاضراً، ينكب "واطسون" على دراسة الطب، على أمل هزيمة البشر في ذلك العلم أيضاً! 

وبين العامين 2004 و2013، فاز الكومبيوتر على الإنسان في لعبة الـ"داما" الشهيرة. لكن الأشد مرارة من اندحارات الرُقَع والشاشات، هو المسلسل الضخم لهزائم البشر أمام الكومبيوتر في الفضاء، بل إنها هزائم ربما تستدر دموعاً. إذ سبق الكومبيوتر البشر في المشي على المريخ، بفضل تألّق الروبوتين- السيّارين "سبيريت" و"أوبوتشونيتي" أواخر العام 2006، وهما وصلا الكوكب الأحمر فيما لا يزال البشر حتى الآن يخطّطون لإرسال ممثلين عنهم إلى ذلك الكوكب!

"نكسة" الفضاء!
في السنة المنصرمة، سبق الروبوت صُنّاعه البشر في الهبوط على مذنّب "غراسيمنكو" بعدما وصله محمولاً على مركبة الفضاء الأوروبيّة "روزويتا". وليس الحدثان سوى قطرة من سيل طويل، لأن كل مكان وصل إليه شيء من صنع الحضارة في الفضاء، كان وصولاً للروبوت على حساب البشر، خصوصاً الكواكب السيّارة. لا داعي للسؤال عمن وصل تكراراً إلى المشتري وزحل، ولا مَن دار حول عطارد والزهرة، بل حتى مَن دار حول الشمس. الإجابة سهلة وواضحة ومباشرة: إنه الكومبيوتر.

مع بداية العام 2015، حلّت بالبشر هزيمة جديدة، لكنها نوعيّة أيضاً! إذ صنع علماء أميركيون برنامجاً للعبة البوكر الشهيرة، استطاع أن يهزم كل مَن لعب ضدّه!

وعلى رغم المسلسل المكسيكي- التركي الضخم لهزائم البشر أمام الكومبيوتر، لم يتمالك علماء جامعة "آلبرتا" في أدمنتون - كندا، أنفسهم من التفاخر بذلك الانجاز. وفي أحاديث تناقلتها وسائل الإعلام الغربيّة بكثافة (وغابت "بكثافة" مماثلة عن الإعلام العربي)، أوضح البروفسور مايكل بولينغ بأن الانتصار في البوكر هو خطوة نوعيّة في تطوّر الذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence.

ولعل مَن يلعبون البوكر خمّنوا السبب، أما مَن لا يلهون بتلك الأوراق، فيجدر تذكيرهم بأن لعبة البوكر تعتمد في جزء منها على تخمين ما يفكر فيه الآخرون، خصوصاً أن أوراقهم تكون مخبّأة ولا يعرفها سواهم. وتتضمن لعبة البوكر كثيراً من المناورة والمداورة  والـ"بلف" والإيحاء بما ليس حقيقياً وغيرها. ولا تتضمن لعبة الشطرنج تلك الأشياء، لأن كل الحجارة والنقلات مكشوفة، بل إنها محكومة بقوانين صارمة.

مبروك للكومبيوتر فوزه في مجال تخمين مناورات البشر ومراوغاتهم. فأين تكون الساحة المقبلة لهزيمة بني الإنسان؟ لننتظر ونرى..

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها