الإثنين 2015/04/20

آخر تحديث: 16:13 (بيروت)

القراءة كفعل منقذ

الإثنين 2015/04/20
القراءة كفعل منقذ
increase حجم الخط decrease
عشت طفولة منهوبة للوحدة. لم أكن وحيداً لأن لا ناس حولي، لكن اخوتي الذين يكبرونني لم يعتنوا بفراغات يومي. يتركونني مهملاً تحت الطاولة او خلف الكنبات، او مشغولاً بالأصوات الداخلة الى شقتنا. تعرفت الى القراءة مبكراً كفعل منقذ، وكبديل للرفقة المؤنسة. لم اكن متهيئاً لنبذ الحياة. فلجأت الى عوالم القصة.

كل ما أعرفه ان القراءة أنقذتني مراراً. وعلمتني الحياة، ودفعتني أكثر الى اختبارها في الشارع. لا يوجد ما هو أهم من "القراءة الحرة" في تشجيع الإنسان على التأقلم، والعيش مع رغبات أخرى، موغلة في الحلم. لم يخيب ظني أي بطل في رواية أو قصة. كانوا كلهم، بِشرِّهم وخيرهم، أصدقاء أوفياء. يتعاطفون معي كما اتعاطف معهم. ويلمحونني كما أراهم. ربما، ليس مبالغة، إذا اعترفت أن أبطال كتب كثيرة، رافقوا أحلام يقظتي. وكانوا رفاقاً وهميين في بدايات وعيي الطفولي. لم يسأموا من كثرة كلامي ولا من أفكاري الغريبة، ولم يتسابقوا على الحكم عليّ. كانوا هكذا لطفاء معي. يخطفون اهتمامي وأبادلهم الرقة.

أول مرة فكرت في الانتحار، خفَّفَت كتب نجيب محفوظ وأبطالها من هذه الرغبة. كنت أصل الى حيواتهم مدهوشاً امام قدرتهم على كسر الموت والانتصار. فأنظر الى حطامي مستهزئاً. كتب كثيرة أحملها في قلبي. شخوصها الجميلة التي تحولت صداقاتها معي الى سر خفي. استأنس بها وأعود إليها. كما الحال في كتب هيرمان هيسه أو فيرجينيا وولف أو إيفان كليما أو روايات محمد البساطي التي سحرتني بعوالمها الشبيهة بعوالم مدينتي. ولم تكن سيرة مارغريت دوراس غلا دافعاً كي أحلم أكثر. ونصوص دوريس ليسنغ وهيرتا موللر، لتشعب ومفارقة الكاتبتين، فظننت أني في مكان ما أتماهى مع بطل "أرجوحة النفس". 

الأبطال أنفسهم سحبتهم معي في رحلاتي الدائمة بين بيروت وطرابلس، وضعتهم في جيوبي، وبين علب الطعام التي توضبها أمي. أطمئن الى جلوسهم الخفي قربي. وهم يطوقونني بودّ. هؤلاء جميعاً كما عرفتهم في الروايات والقصص، وكما تصورتهم في رأسي. بوجوههم وعتمات قلوبهم وخيباتهم الصغيرة وحروبهم التي لا تنتهي. أعود إلى صورهم الكثيفة واليتمية أيضاً كي أوقن أن للحياة معنى. مخطىء من قال أن القراءة تمنع من عيش الواقع. أو أنها عالم كثير التفاصيل المتخيلة.. ومن يحدد ما هو متخيل وواقعي؟ وما هو الحيزّ الذي يفرقهما؟ 

في الواقع، لم أؤمن بقوة ساحرة لكائن بشري أكثر من سحر الرواية. المكان الآسر الذي أتجول في عوالمه من دون خوف أو تردد. أتملك فيه روحي وأحس أن الدنيا خفيفة ومرحة. وعلى الرغم من زعل البطولات الثانوية وموت الأبطال البارزين، لم أحس إلا بالخفة.

سرّ عظيم يتأتى من الكتب. ويحدث أن تكون وحدها ما يعتني بخوائنا الداخلي. تخلق عالماً موازياً يخفّف من الألم. الفراغ، والحزن الدموي الذي يعيش في الرئة. نحن نوغل في الوحدة ونتطرف فيها، لكن حيوات الكتب، تعيدنا الى سكة أليفة. نتماسك من بعدها، ونظن أن الأشياء على ما يرام، وما هو متهتك وضامر ومخيف ليس سوى أوهامنا في واقع نعيشه، وأن الحلم هو ما يبقي مساحاتنا واسعة. 

لا شيء أجمل من الكتب. منذ طفولتي ولغاية الآن، وبشكل متواز مع أمي، اعتقد أن الكتب اعتنت بي. أنا ممتن لهؤلاء الكتّاب. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها