الجمعة 2015/02/27

آخر تحديث: 16:39 (بيروت)

عائلة لا تموت! ما هذا الطمع؟

الجمعة 2015/02/27
عائلة لا تموت! ما هذا الطمع؟
increase حجم الخط decrease

المرآة الحمراء في الدرج. لن تطاولها يد. ستبقى حيث هي. سيمر وقت طويل وتظل في مكانها وتصير عرضة للغبار الذي يتكدس فوق حوافيها ووجهها. كأنه، الغبار، في تراكمه، إنما يخبىء وجهك. يحفظه من تطفل الوجوه العابرة.

لن يستيقظ أحد صباحاً ويتناول المرآة ويرنو إلى وجهه فيها ملياً ويبتسم مغتبطاً، كما تفعلين أنت. الوجنتان حمراوان، متوردتان. تطفحان بحمرتهما مثل باقة ورد. هكذا تقولين في نفسك وينفرج ثغرك. وهكذا أفعل أنا. أقول الكلام ذاته في نفسي، فيما أنا أقف مسنداً رأسي إلى حافة الباب المفضي إلى غرفتك. أكون أنظر إليك وأجدني بعد حين مندفعاً إليك لأسقط فمي على وجنتيك سقطاً وألتهمهما. آكلهما كأني ألمّ الورد من حدائقهما. تضحكين. أحب ضحكك.

كنت صغيراً على ورد وجنتيك، ومن حسن حظي، أني شببت عليه. أظن أن لا وجه آخر جميلاً ستطفح المرآة بورده إذ تحتضن وجهاً غير وجهك. هكذا تتبدى لي، وأنا أنعم النظر إليك وبقايا النعاس يربض فوق جفنيّ. مرآة من تراب مزدانة بورود منثورة.

بقيت وقتاً أرى وجهك في شُجيرة الورد الأحمر التي تزدهر إلى جانب السلّم المفضي إلى البيت. كنت أظنها تطرح ثمارها كرمى لوجنتيك. ولاّدة جمال، مثلك أنت. أسرّيت لك بهذا ذات مرة. ضحكت. فعلتها وضحكتِ وتفتح الورد.

لم أشأ للصباحات الآتية أن تكون غير التي عهدتها. هكذا، بكذب صريح على النفس والعقل. كأني كنت أدفع عن نفسي التفكير في أن الموت سيحول بيني وبين عائلتي الكبرى التي أحب. عائلة لا تموت! ما هذا الطمع؟

فعلتها ونهضت صباحاً. قمت من فراشي، وعلى جري عادتي، وقفت على بعد مسافة منك. تأملتك ودنوت منك وقلت لك صباح الخير. قلتها وأنا ألثم خدك من وراء الغطاء. قبلت وجنتك اليمنى كأني أغب من ورد ثمانينك. أشعلت سيجارة وشربت القهوة وحادثتك بصوت خفيض. كنا بمفردنا وربما كنت تسمعينني. أفضل أن تكوني كذلك. قلت لك إنك أطلتِ النوم يا حبيبتي، وأن عليك أن تستيقظي الآن. أن تتناولي المرآة وتعيدي إليّ ما مضى من عمري. أن لا أجدني سلبت ما منحتني إياه دفعة واحدة. أن أشيخ وتصبح طفولتي موغلة في البعد. أن تضحي ذاكرتي معك لا تمسك. أن تصير ضغث ذاكرة. صور مشتتة لا أعود أعرف كيف أستجمعها وأرتبها وأتدفىء بها وأغفو مثل ما كنت.

كبرت يا حبيبتي. أحس أني كبرت وأشعر بالبرد. لم أغفُ جيداً منذ كنت لوحدي أمس. أي منذ تركت أمي وأختي وقررت أنه يجب أن أكون بمفردي. أن أدع لنفسي وقتاً أستعيد معه كل شيء، مرة واحدة. أن أحزمه في قلبي مثل صرّة وأمتلأ به مرة واحدة أيضاً. 

                                      * * *

- "تحبينني؟"
- "الله أعلم". ترفع يديها للسماء كأنما تستدعي الله لتشهده على صدق قولها.
يبتسم. يقبلها. تقبله. يقترب من حضنها الذي يتسرب دفؤه إليه. تتسلل إليه عدوة الدفء. يغرق ويكاد يغفو.

                                         * * *

وجهها ويداها وعباءتها معفّران بالطحين. ترقّ قطعة العجين وتلقي بها على سطح قبة حديدية أسفلها نار يقال لها صاج. تنتشل الرغيف ساخناً. تمزقه بيديها ولا تخفي ألمها من إحتراق يديها. تنفخ عليها وهي تمزق الرغيف إرباً وتضعها في فم الطفل الذي إلى جانبها. يأكل ولا يشبع. تنظر إليه وتضحك.
"بدك بعد؟" تسأله.

                                        * * *

تحمله وتقربه إليها. تغمره في حضنها وتقبله. المرأة التي قبالتها لا تجيد التقاط الصور. لكن، يبدو أنها لم تأبه لذلك. هي لا تعرف كيف يلتقطون الكاميرا ويصورون، لكنها تطلق إبتسامتها للعدسة التي أمامها. تظل على تقاسيم وجهها. شجرة السفرجل التي خلفها مزهرة. زهر السفرجل أبيض. منديلها أبيض. عباءتها زرقاء مقلمة بالأبيض. أبيض قلبها كان في المحيّا. إبتسم ملء فمه.

                                        * * *

حملها كأنه يعينها على نزول السلالم. لتنزل السلالم درجة تلو الأخرى وتصير في وسط باحة واسعة، قبل أن يجلب لها كرسياً لتجلس إليه. تتأمل قليلاً في يدها المدموغة بالحناء ثم تشيح بوجهها إلى الحديقة التي تسور البيت، وتقول "التين على إمّو".

حملها لكنها لم تشح بوجهها ولم تجلس. حملها وظن أنها في تمددها، ستعرف أن الأشجار المزهرة في الحديقة سيأتيها الصيف وستكون ثمارها شهية. حملها مثلما حملته وكان الجوري يموج مع النسائم. حملها وكانت ورودها حمراء. حملها وكان خبزها لم يزل ساخناً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها