الثلاثاء 2014/11/25

آخر تحديث: 16:27 (بيروت)

الإعلام وروبوت "فيلاي": الإحتفاء بهزيمة البشر

الثلاثاء 2014/11/25
الإعلام وروبوت "فيلاي": الإحتفاء بهزيمة البشر
على الأرض أيضاً لم تتوقف هزائم الذكاء البشري: من الشطرنج إلى الشبكات الاجتماعية!
increase حجم الخط decrease

مجدداً، يوضع مصير حضارة البشر ومآلاتها على محك نقاشات شائكة، بفضل روبوت يحمل إسماً فرعونيّاً هبط على مذنب يدور بين الشمس وكوكب المشتري. ومجدداً، يبدو البشر مهزومين أمام الروبوت وذكاءه الاصطناعي، ما يعني أن مقولة "الروبوت هو أداة من صنع البشر" لا تصف سوى جزء بسيط من العلاقة المعقّدة بين سليل تطور الذكاء الإلكتروني، وبين سلالات التطوّر البيولوجي على الأرض (البشر).

انشغلت وسائل الميديا العالميّة بمتابعة هبوط روبوت استكشاف الفضاء "فيلاي" على مذنّب "67/بي شيريميوف- غيراسيمنسكي". وبدت أضواء الميديا وكأنها خطفت من الأرض إلى الفضاء. ولاحقت وسائل الإعلام تفاصيل وصول المركبة الأوروبيّة "روزيتا"، ثم انطلاق الروبوت من قلبها ليتقافز، وتتفاقز معه التغطية الإعلاميّة المكثفة (خصوصاً التلفزة والشبكات الاجتماعية)، قبل أن يستقر قليلاً، ويبدأ في سبر أغوار ذلك المذنب البارد إلى ما دون الصفر بـ72 درجة.

انشغل الإعلام العالمي بتفاصيل ذلك الانجاز. وعلى طريقة متابعة أخبار النجوم، لاحق الإعلام الأسماء، منشغلاً بأن المركبة تحمل إسم "حجر الرشيد" (يسمى باللاتينيّة "روزيتا") الذي اكتشف منه العالم الفرنسي جان- فرانسوا شامبليون أسرار اللغة الهيروغليفية، فيما جاء إسم الروبوت من "جزيرة فيلة" النيليّة التي تضمّ مجموعة من الآثار الفرعونيّة. وفي ظلّ تلك التغطية الإعلاميّة المكثّفة، قلّما ذُكر أن للأمر وجهاً آخر يتصل بالعلاقة الشائكة بين البشر والروبوت، بالأحرى أن وصول الروبوت "فيلاي" مثّل حجراً أبيض جديداً في مسار تفوّق الروبوت على البشر.

سابقة الشطرنج
ليست المرّة الأولى التي يحقّق فيها البشر إنجازاً "ملتبساً"، بمعنى أن يكون وجهه الآخر هو هزيمة حضاريّة أمام الذكاء الاصطناعي للآلات. لم يختتم القرن العشرين قبل أن يهزم ذكاء الإنسان أمام الروبوت، عبر هزيمة مدوّية لبطل الشطرنج الأسطوري غاري كاسباروف أمام الكومبيوتر "ديب بلو" (1997). صحيح أن الآلات الذكيّة من صنع البشر، لكن ذلك ليس ضمانة بألا تهزمه. وأثناء إحدى جولات تلك المنازلة الشطرنجيّة، أدّى كومبيوتر الشطرنج نقلة ثم اتّضح أنها مناورة، ما جعل كاسباروف يقول لاحقاً إنه لم يتوقّع من الكومبيوتر أن يظهر دهاءً ومراوغة، وكان كاسباروف يظنهما حكراً على البشر.

في الفضاء، يبدو التشابك بين البشر والروبوت أشد تعقيداً. إذ أن جمعاً من انجازات الحضارة البشرية لم تكن سوى انتصارات متوالية للروبوت. من سار على سطح المريخ؟ انحصر ذلك السبق الذي مثّل نتاج جهود بشرية متطاولة، في روبوتين- سيّارتين هما "سبيريت" و"أوبورتشونيتي". من وصل إلى الغلاف الجوي الفائق الاضطراب لكوكب "زحل"، وأرسل أول معلومات مباشرة تحوزها الحضارة عن ذلك الكوكب وحلقاته المثيرة؟ إنه الروبوت...إنه الروبوت.

على الأرض، لم تتوقف هزائم الذكاء البشري عند الشطرنج. وعقب هزيمة كاسباروف، هرول كثيرون إلى تفسير مبتسر قوامه أن لعبة الشطرنج هي شديدة الميكانيكيّة ومحكومة بقواعد صارمة وجامدة، كل ما تتطلّبه، إضافة الى التركيز المذهل، الاستمرار في حساب الاحتمالات، بل تكرار تلك الحسابات عند كل نقلة. ولأن الحساب وتكراره هو من الأعمال المفضّلة للذكاء الاصطناعي، لم يكن مستغرباً، وفق ذلك التفسير، أن يصل الأمر إلى نقطة يتفوق فيها التكرار الميكانيكي الجامد على العقل البشري الميّال للتنقّل والتخيّل والابداع، وليس للجمود.

الشبكات الاجتماعيّة "تفضح" ذكاء البشر
منذ البداية، لم يتكن تلك الحجة مقبولة لدى الكثير من العلماء، خصوصاً المشتغلين بالذكاء الرقمي. بعد فترة، انتشرت الانترنت. وصارت أدمغة البشر تصبّ ذكاءها عبر تلك الشبكة. وظهر بُعد آخر في نقاش العلاقة بين ذكاء البشر وذكاء الآلات الذكيّة، قوامه مدى استفادة الذكاء الاصطناعي من تجمّع أدمغة البشر وذكائها عبر الشبكات.

ربما بقيت مسألة الشبكات وعلاقاتها، مع السمات المميّزة لذكاء البشر، أمراً غير ملموس بالنسبة لكثيرين، خصوصاً وسائل الإعلام العام. ثم حدثت طفرة يصعب تجاهلها، مع ظهور شبكات التواصل الاجتماعي. (حسناً، ربما يجدر التوقّف قبلاً عند تجربة شبكة "سيكوند لايف" Second Life (الحياة الثانيّة)، لكنها لا تبعد عن سياق نقاش الشبكات الاجتماعيّة بشكل عام).

ما الجديد الذي قدّمته الشبكات الاجتماعيّة في مسألة الذكاء البشري؟ من المستطاع البدء بالإجابة انطلاقاً من فيلم "هير" Her (عرض في 2013، بطولة: يواكيم فوينكس وسكارليت جوهانسن). يرسم ذلك الشريط الهوليوودي، علاقة عاطفيّة تنسج بين إنسان ونظام ذكاء اصطناعي (بصوت جوهانسن). ما الذي مكّن الآلات من الوصول إلى نقطة مخاتِلَة في صورتها، بمعنى أن تبدو بشريّة تماماً، مع الاستمرار في صفاتها المتفوّقة الآتية من كونها آلة ذكيّة؟ يرسم فيلم "هير" الإجابة انطلاقاً من نقاش فعلي في أوساط المهتمين بالذكاء الاصطناعي. ووفق "هير" استفاد الذكاء الاصطناعي من الشبكات الاجتماعيّة لمعرفة خصائص إنسانيّة في ذكاء البشر، كالعواطف وطرق التعبير عنها، وأساليب التواصل، وتضمينات الكلام ومجازاته واستعاراته، وتجارب البشر في تفاعلهم مع بعضهم البعض وغيرها.

باختصار، قدّمت شبكات التواصل الاجتماعي، خبرات الذكاء البشري في أبعاده العاطفيّة واللغوية والاجتماعية، واستفاد ذكاء الآلات منها بأن أضافها إلى ما يملكه من ذكاء "ميكانيكي" وحسابي ورياضياتي. مثلاً، تتأوه جوهانسن أثناء حوارها مع يواكيم في لحظة قرارها الانفصال عنه. يسألها يواكيم عن سبب تأوّهها، رغم أنها لا تتنفس بالأوكسجين ولا رئة لديها لتحتبس الهواء عند انفعالها. وتجيب أنثى الذكاء الاصطناعي بأنها حصلت على تلك الميزة بعد دراستها أساليب التخاطب بين البشر في لحظات مماثلة، عبر شبكات التواصل الاجتماعي.

ربما يكون "هير" مجرد فيلم وخيال هوليووودي، لكنه غير بعيد من مجريات فعليّة. ففي العام الذي ظهر فيه شريط "هير"، استطاع الكومبيوتر "واتسن" أن يهزم البشر في برنامج "جيوباردي!" الذي لا يستند إلى مجرد معلومات، بل يحتاج إلى افتراضات وتخمينات وترجيحات حدسيةّ للاحتمالات وغيرها من السمات المميّزة لذكاء البشر.

ربما لم تهتم وسائل الإعلام العربيّة بفوز "واتسن"، لكنه حدث جرت تغطيته بكثافة غرباً. لم يفت الميديا الغربية ملاحظة تفاصيل من نوع أن شركة "آي بي أم" هي نفسها التي صنعت "ديب بلو" الذي هزم كاسباروف في الشطرنج. وتحدّثت أيضاً عن تفاصيل أكثر دقة، كالإشارة إلى أن إسم "واتسن" مقتبس من عبارة "هيا بنا يا واتسن" التي تردّدها الشخصية الروائية الشهيرة: شارلوك هولمز. ويحمل الأمر تلميحاً ذكيّاً إلى استفادة ذكاء الآلات من تجارب البشر التي تحمل سمات مميّزة لذكاء الإنسان. وللحديث بقيّة...

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها