الجمعة 2015/05/08

آخر تحديث: 18:09 (بيروت)

علاء الدين الأيوبي.. رحل إمام النادمين

الجمعة 2015/05/08
علاء الدين الأيوبي.. رحل إمام النادمين
لا يكتمل النصر دون أن يؤكدوا منتحبين: "ندمان يا سيدي، ندمان!"
increase حجم الخط decrease

أوائل التسعينات، حين كانت الرقة لا تزال مدينة فراتيّة صغيرة وشبه منسيّة، عصفت جريمة كبرى - بمعايير الرقة في ذلك الوقت - بالهدوء العام، وأصبحت حديث الناس طوال أسابيعٍ، إذ سطا شخصان على فرع البنك الصناعي وسط المدينة ليلاً، وقتلا حارسه، ثم قتل أحد اللصوص زميله بعد إتمام السرقة. لم يذهب المجرم بعيداً بعدها، فقد أُلقي القبض عليه بعد ساعاتٍ قليلة.

توالدت الشائعات والثرثرات في مدينة غير معتادة على أحداث أمنية أبعد من المشاجرات أو بعض السرقات الصغيرة، وكثرت التكهنات والتحليلات عن مصير المجرم، وحول تبعات نوع الحكم الذي سيناله، وعن ردود أفعال أقارب المتورطين في الجريمة وضحيتها. إحدى الشائعات التي راجت في الأسابيع التالية هي أن المجرم سيظهر في "الشرطة في خدمة الشعب" على شاشة القناة الأولى في التلفزيون السوري.

سرت تلك الشائعة على النسق الذي كانت تسري فيه كل الأخبار الآتية من دمشق، مثل موعد إعلان نتائج امتحانات الشهادتين الإعدادية والثانوية، أو تعيينات المحافظين أو مسؤولي الدوائر الحكومية: فلان لديه صديق يعمل في وزارة ما وأخبره أن حلقة جريمة المصرف الصناعي في الرقة ستُعرض الثلاثاء المُقبل، أو شقيق زوجة فلان آخر مقيم في دمشق وله صديق يعمل في التلفزيون أكد له أن الحلقة قد سُجلت قبل أسبوع.. الخ.

اهتم أهل الرقة بمتابعة البرنامج لمشاهدة تفاصيل الجريمة التي حصلت في مدينتهم، أو ببساطة لمشاهدة أي شيء له علاقة بالرقة في التلفزيون، وهو أمر كان نادراً جداً في تلك الأيام. لم تُعرض الجريمة في الثلاثاء الأول، ولا في الثاني، ولا في الثالث، وتراجع بعدها الاهتمام والانتظار. لا أذكر حقيقةً إن كانت حلقة ما عن "جريمة العصر" في الرقة قد عُرضت أصلاً بعدها، لكن برنامج "الشرطة في خدمة الشعب"، نال جماهيرية طوعيّة في المدينة لمدة أسبوعين أو ثلاث. أقول "طوعية" لأن البرنامج، كما كل برامج التلفزيون السوري في قناتيه، كان الخيار المتاح الوحيد في تلك الأيام السابقة على انتشار الأطباق اللاقطة للقنوات الفضائية.

لم تكن الفكرة العامة لبرنامج "الشرطة في خدمة الشعب" اختراعاً سورياً، فمن الشائع في طول العالم وعرضه، وجود برامج تلفزيونية تعرض عمل أجهزة الشرطة أو أجهزة أمنية أخرى، وبعض هذه البرامج هوليوودي الصيغة والإخراج. لم يكن البرنامج كذلك، بل كان باهتاً ورمادياً ومملاً بطريقة تبدو مقصودة، بل ومشغول عليها بتمعّن. كان برنامجاً بعثيّ اللغة والإخراج، وشخصية علاء الدين الأيوبي، مقدم ومدير البرنامج، والذي أعلنت وكالة سانا وفاته الأربعاء الماضي إثر أزمة قلبية، كانت التفصيل الأكثر بعثيّة فيها: مظهره وطريقة لباسه، لغته الخشبية، مصطلحاته البائتة، طريقة أدائه.. وهذه تفاصيل مشتركة بين غالب كوادر التلفزيون السوري. لكن ثمة تفصيل امتاز به الأيوبي عن غيره جعل له شعبية ساخرة عاشت بعد انقطاع الناس عن متابعة التلفزيون السوري لسنوات طويلة. فقد كان، عدا كونه مذيعاً نمطياً للتلفزيون السوري في زمن حافظ الأسد، يجمع كل تفاصيل الصورة النمطية - والكاريكاتورية بما يكفي لاستخدامها في مسلسلات التلفزيون السوري ذاته بشكل ساخر- لضابط الشرطة أو الأمن الجنائي السوري.

كانت شارة البرنامج تصدح بموسيقى عسكرية مُعلّبة، لتخبرنا الشاشة أن البرنامج هو ثمرة تعاون بين إدارة التوجيه المعنوي في وزارة الداخلية والتلفزيون العربي السوري. بعد الشارة، يظهر علاء الدين الأيوبي مُعاقباً الجمهور بخطاب ممل، مُكوّن من جمل مُتكلسة يُعاد تركيبها وصفّها في كل حلقة، عن حتمية وقوع قبضة العدالة على رؤوس المجرمين، وعن كفاءة وتفاني "العيون الساهرة على أمن الوطن والمواطن" في مكافحة الجريمة. لينتقل بعضها لتقديم ما سيُعرض: عصابة سلب، تاجر مخدرات، مُغتصب، قاتل بقصد السرقة.. الخ.

متن الحلقة، وفقرتها الأكثر كوميدية، لقاء مع المجرم أو المجرمين. هنا يتحول علاء الدين الأيوبي من مقدم تلفزيوني ممل ومتخشب إلى ضابط تحقيق شرس، من دون أن يتخلى عن دوره ولغته التلفزيونية- سوريّة في أداء الأسئلة. يتصرّف المُستجوَبون أمام الكاميرا وكأنهم فعلاً في تحقيق، لكنه تحقيق مُدجّن، وانعدام الاهتمام بإخفاء تدجينه مضحك فعلاً.

المجرم صافي التفكير دوماً، يعرض سير الأحداث بترتيب ووضوح، وكثيراً ما يستخدم نفس عبارات ومصطلحات الشرطة أو الموظفين الرسميين. في إحدى الحلقات الموجودة على موقع وزارة الداخلية السورية، يقول عضو عصابة سرقة سيارات أن زعيم العصابة كان يجمعهم كل صباح كي يعطيهم التعليمات قبل أن يقول لهم، حرفياً، "هيا بنا إلى السلب".

إحدى العبارات الخالدة في قاموس الأيوبي، كانت إصراره على سؤال السارقين إن كانوا قد صرفوا ما جنوه من بيع مسروقاتهم على "ملزّاتهم الشخصية". هنا مفارقة طريفة، فالأيوبي لافظ جيد للغة العربية، وقادر على إخراج الأحرف اللثوية بسلامة، لكن "الذال" كانت تصبح "زاياً" في السؤال من دون التخلي عن التعبيرات والمصطلحات والجمل بالفصحى حتى لو تكلّم بالعاميّة. هذه الطريقة في الكلام مألوفة لدى الموظفين العامين، وخصوصاً الشرطة، واستُخدمت بكثرة في المسلسلات الكوميدية، مثل شخصية "المختار" التي أداها زهير رمضان في مسلسل "ضيعة ضايعة" الشهير.

على أن أكثر اجتهادات الأيوبي خلوداً في ذاكرة السوريين، هو سؤاله المعتاد، آخر كل لقاء مع المجرم أو عصابة المجرمين إن كانوا قد ندموا على "ما اقترفتهم أياديهم الآثمة من إجرام". في غير حالة، وحين كان المجرم صغيراً، كان الأيوبي يضيف "يا ابني" على هذا السؤال بالتحديد.

ضابط التحقيق الحديدي يترك هنا نافذة صغيرة مفتوحة للإنسان في داخله كي يلتقي مع الإنسان داخل المواطن المُجرم، ليتعانقا على حبّ الوطن والندم على إقلاق راحة المواطنين. هنا، ينتحب المواطن المجرم باكياً، أو يُبدي من الخجل والحزن ما يُرادف البكاء إن عجز عنه، ويقول له "ندمان!". كثيراً ما كان تعبير الندم يأخذ صيغة "والله ندمان يا سيدي!"، وكأن المجرم يتحدث مع ضابط. هذا التعبير هو أكثر ما يمكن أن يتذكره أي سوري إن قيل اسم علاء الدين الأيوبي أمامه.

تنتهي الحلقة أيضاً بخلاصات الأيوبي واستنتاجاته، وتأكيداته الواثقة بأن يد الجريمة قصيرة أمام حزم قوى الأمن الداخلي وعدم تساهلها في كل ما له علاقة باستتباب الأمن والأمان، وتأتي هذه الخلاصات بعد لقاء مع أحد الضباط المشرفين على إلقاء القبض على المجرمين. حديث الأيوبي والضابط هو دردشة بين "زملاء"، لا سيما إن كان الضابط من رتبة عقيد أو عميد، أي قائداً للشرطة في إحدى المحافظات أو أحد معاونيه، أو أحد رؤساء أفرع الأمن الجنائي. أما إذا كان الضابط أقل رتبة، كأن يكون مدير مخفر مثلاً، فعليه أن يشير في سرده للوقائع أن العملية جرت تحت إشراف وتوجيهات العميد فلان قائد شرطة المحافظة، أو العقيد فلان مدير المنطقة.. لقد كان علاء الدين الأيوبي شديد العناية بأن تُذكر أسماء "زملائه" باحترام وتقدير.

كان برنامج "الشرطة في خدمة الشعب" جوهرة تاج نتاج علاء الدين الأيوبي التلفزيوني، لكنه لم يكن الوحيد، فقد كان يقدّم أيضاً بعض نشرات الأخبار الاستثنائية، أو تغطيات الاحتفاليات بإحدى المناسبات "الوطنية"، مثل مسيرات التأييد، أو أداء حافظ الأسد وابنه لصلاة العيد. الكاميرا المفتوحة على المسيرة أو على "القائد الخالد" أو "الرئيس الشاب" قد تمتد طويلاً، وكان لعلاء الدين الأيوبي موهبة فظيعة في اجترار عبارات مطوّلة من أدبيات "البعث" بصوته الذي يكاد يحرر الجولان واسكندرون وفلسطين وإقليم أوغادين لمرافقة المشاهد المصوّرة وملء وقتها.

في الحقيقة، لا فكرة لدي إن كان عرض "الشرطة في خدمة الشعب" قد توقف في التلفزيون السوري. لكن اندلاع الثورة السورية كانت شباباً جديداً لعلاء الدين الأيوبي، فقد عُيّن مديراً لقناة "نور الشام" الدينية، التي افتتحت بأمر من بشار الأسد بعد اجتماعه بمجموعة من المشايخ في سياق استقباله "الفعاليات الشعبية" العام 2011؛ وظهر في برامج عديدة على التلفزيون السوري لتتبع ودحض "التضليل الإعلامي" لحقائق ما يجري في سوريا. في الواقع، كان من الطريف أن يستمر علاء الدين الأيوبي في صدارة الأداء التلفزيوني حتى الآن، فهو -بحق- المذيع النمطي لحقبة حافظ الأسد، ولا يتوافق مظهره أو أداؤه مع محاولة حقبة بشار الأسد الظهور بمظهر أكثر عصريّة من زمن أبيه. الأيوبي، على عكس عبد الحليم خدام ومصطفى طلاس وحكمت الشهابي وغيرهم، "حرس قديم" استطاع الصمود أمام رياح "العصرنة" التي أتت مع بشار الأسد.

على أن إظهار علاء الدين الأيوبي تلفزيونياً خلال الثورة السورية كان خياراً صائباً في إدارة النظام للمعركة النفسية ضد معارضيه. ووفاته، بلا شك، خسارة كبرى في هذه المعركة النفسية: الرجل عنوان الأمان، ولا شك أن لظهوره على التلفزيون أثراً مطمئناً على الجمهور المؤيد. علاء الدين الأيوبي يعني أن أمن الوطن والمواطن في أيدٍ أمينة، وأن عموم المندسين والمخربين والإرهابيين لا شك سيقعون في يده قريباً، ليعترفوا له كيف تم إغواؤهم وإقناعهم باقتراف الجرائم والآثام، وكيف تقاضوا الأموال لإنفاقها على "ملزّاتهم الشخصية"، وكيف وقعوا في يد دورية بقيادة الضابط فلان، والتي تحركت بتوجيهات العقيد فلان و إشراف ومتابعة العميد فلان.

وطبعاً، لا يكتمل النصر من دون أن يؤكدوا منتحبين: "ندمان يا سيدي، ندمان!".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب