الجمعة 2014/07/18

آخر تحديث: 16:48 (بيروت)

أنا بحب السيما.. يا كاميليا

الجمعة 2014/07/18
أنا بحب السيما.. يا كاميليا
من فيلم "الكيت كات"
increase حجم الخط decrease

كان مشهد "يوسف" ومواجهته لأبيه "الشيخ حسني" بخصوص بيع البيت، في فيلم "الكيت كات"، من المشاهد التي شعرت بالتسليم لها، صغيراً، في السينما يا كاميليا. كان يوسف يريد أن يرحل ويحقق حلمه في السفر. ربما حينها لم أكن أفهم معنى كلمة  "حلم" الحقيقي. كنا ننظر إليها كأنها مستقبل أو كلّية من الكلّيات التي نمرّ إليها بعد كابوس الثانوية العامة. وبمرور السنوات، عرفت معنى الحلم، ومدى تأثيره في صاحبه. للحلم وطأة وسحر لا يُفَاوَض على حضوره يا كاميليا.

بدأ الحلم ومفهومه معي، عندما وددت أن أمارس كرة القدم وأصبح لاعب كرة، كحازم إمام نجم فريقي. بعدها بفترة شعرت بأن الحلم في صداقتي لفتاة، ثم في مستقبلي بالثانوية، ثم ثورة، ثم النصر... وهكذا، تعددت الأحلام، و تضاءلت مدّتها، وتباعدت شيئاً فشيئاً، فصارت كنجوم بعيدة في سماء غير آمنة. كانت "سينما الزيتون" بحي الزيتون في القاهرة، من الدرجة الثالثة، تعيد عرض الأفلام القديمة، والتي استبعدت من صالات العرض. كانت تقدم فرصة جديدة لمشاهدة الأفلام التي فاتتنا رؤيتها يا كاميليا. كانت المرة الأولى التي أتخلّف عن الذهاب للمدرسة، وأذهب مع أصدقائي للسينما، في العام 2000. تناولنا الإفطار مع بقية الطلاب من عربة الفول بجوار المدرسة، ثم ذهبنا للتسكع في الشوارع، حتى حانت العاشرة صباحاً. كان موعد المرور الأول لحفلات عرض السينما. تكرر الأمر، وبمرور السنوات تأكدت أن تلك المرحلة هي أكثر المراحل التي عرّجت فيها على السينما مع أصدقائي. بعض الأصدقاء خرجت السينما من قائمة إهتمامتهم بعد تقدمهم في السن، وهذا ما يفسر قلة مرات المرور إليها حتى لو إجتهدنا.

كان المرور الأول رهبة وغرابة، شعرت حينها أن شيئاً ما هنا مختلف. الأسقف العالية والشاشة السوداء الكبيرة للغاية، شيء ما انبعث من الكراسي الحُمر ليؤكد جنون ما يحدث هنا. وبإنطفاء النور، تنطفئ رهبتك ويبدأ شغفك بالعرض الذي لا ينتهي الإ بإسدال الستار. هكذا تعلمت من نفسي حينها، كانت ساعات السينما هي الأكثر خشوعاً لي حينها. شعرتُ بشيء من التسليم لتلك التجربة، وهو ما دفعني بعد ذلك لارتيادها أكثر من مرة في الأسبوع، أكثر من مرور أي من أصدقائي للسينما. كنتُ أعتقد أنني أحب الأفلام التي تعرضها السينما ليس أكثر، لكني أدركتُ أنه ليس السبب، حيث أن هناك العديد من العروض السيئة التي شاهدتها يوماً بعد يوم. حينها أدركت أن شيئاً ما يخصّ التسليم، قيّدني بتلك التجربة. صرتُ صديقاً مألوفاً للكراسي الحُمر والسجاد العطن والشاشة الكبيرة التي تملكني كلما واجهتها. حينها عرفتُ التملّك من الروح.

كنتُ في سن صغيرة، بعدها بسنوات عندما مررت بأول قصة حب في مراهقتي، علمت بأن ما حدث في علاقتي بالسينما، ليس باعتياد، او اهتمام، بقدر ما هو حب. لا شيء له تلك الوطأة المحبّبة للنفس سوى الحب. حينها كنت صبياً وشعرت بأنه حان وقت تحديد قائمة بالأشياء المسلّم بها في حياتي، في طموحي لأن أصبح رجلاً يؤمن باشياء محددة، فكانت أولها، "أنا بحب السيما" يا كاميليا.

كان الجميع في السينما ينتظرون أفلام عادل إمام، بصبر إنتظار الأفلام التركية والأفلام التي قدمها ممثلون مصريون إبان النكسة. بعدها، توقف نشاط السينما في مصر، الأمر الذي دفع العديد من الممثلين المصريين إلى المشاركة في أفلام في بعض البلاد العربية والأجنبية. كان الجميع ينتظر فيلم "حمام الملاطيلي" و"رحلة العمر" لشمس البارودي. كان رواد السينما يقدرون شمس البارودي للغاية، بما يتخطى تقديرهم لأي ممثل يظهر على الشاشة. كنت أحب شمس أيضاً، وكنتُ أحب أفلام عادل إمام. وعندما عرض فيلم "الحرّيف" ذات مرة، لم أفهمه، الإ عندما دخلت العرض مرة أخرى. حينها تأكّدتُ أنني فهمت شيئاً جديداً في الفيلم، الأمر الذي تكرر مجدداً في المرة التالية، وإستمر الحال حتى الآن.

في كل مرة أشاهد فيلم "الحرّيف"، أكتشف شيئاً جديداً قام به محمد خان. كان مشهد قيادة "فارس" للسيارة  بين الحواري قبيل نهاية الفيلم، هو الأكثر تأثيراً فيّ، منذ المرة الأولى التي شاهدته فيها. الإختناق بين الحَواري وصوت شهيق فارس وزفيره، كان أعظم مشاهد عادل إمام في السينما. كل ما لا تستطيع الكتابة شرحه. الفقر مرهق، وكذلك عدم الشعور بالأمان في المستقبل، والشرح أكثر إرهاقاً يا كاميليا.. وحدها الصورة أخرجت المشهد كما كان يجب أن يخرج للشاشة، أننا نحب الخيال لصوره يا كاميليا. نسبح في صوره وشرحه البديع للتفاصيل التي لا نودّ أو لا نستطيع التعبير عنها بالكلام، لذلك قدّسنا الخيال، ولهذا عشقنا السينما.

كنت أشعر بأن جيل الثمانينات والسنوات الأولى من التسعينات، جدير بأن يمر بتجربة كبيرة. تجربة يستحقها بعد كل تلك سنوات الركود، هذا الجيل المختلف كان لا بد أن يمر بتجربة جماعية مميزة، أو معاناة، وهو ما مررنا به طوال السنوات الأربع الماضية. كانت التجربة حقاً لنا يا كاميليا. كان تمرّدنا على الأجيال السابقة وعلى الفساد الذي طاول كل شيء، هو المحرك الرئيسي لنا.. وكان لنا حلم، بديع، إلى جانب كل هذا، حلم يقودنا لقدرة على التغيير في كل شيء، في حياة تلك البلدة وحياتنا. حلم المزّيكا والسينما والكتابة والكرة التي يحلمها جيلنا.

علمتُ مؤخراً بمشاعر "يوسف" عندما قال لأبيه "أنت بعت البيت يابا؟". بعد السنوات الأربع، لتلك التجارب الجماعية الفاشلة أنينها. كانت حياتنا أفضل، كان الجميع يخشع للسينما، كأول مرة دخلتُها يا كاميليا. كان الجميع قد آمن بالخيال، وصوّره. كان الجميع يصدّق كل شيء، وأيّ شيء، الأمر الذي دفع بكل من أعرفهم إلى محاولة الدخول في علاقات عاطفية جديدة.

والآن، بعد كل هذا الإرهاق، علينا أن نكمل طموحاتنا الشخصية، بما طرحته منا وتركته فينا التجربة، بوجوه لاعنة لكل ما ذهب. نبحث عن كل ما يناسبنا في تلك المرحلة المختلفة عن أي مرحلة أخرى سابقة. نقتنع باختياراتنا التي إختلفت. نبحث عمّا يناسبنا في البديهيات. نتغاضى عن تصنيف بعض الأشياء لعدم جهوزيتنا للحكم عليها بضمير عادل، ونظلم أشياء أخرى، ونرفق بأنفسنا ونحتضن من نحبهم. ربما كانت تلك هي التجربة أو إحدى فصولها. المؤكد أن كتابة تاريخنا وتجربتنا، حتمية، ولأجل ذلك، كان "الحلم" الجديد، بالإقتراب.. والكتابة إليكِ يا كاميليا.

increase حجم الخط decrease