الجمعة 2014/12/19

آخر تحديث: 18:54 (بيروت)

"بلا تشفير" و"المتهم": غُرف للتعذيب

الجمعة 2014/12/19
increase حجم الخط decrease

في ظل الحرية الاعلامية التي يتغنى بها لبنان، ظهرت برامج عدّة ظن معدوها أنهم يقدمون حقائق، لكن، في الواقع، كل ما قدموه يندرج في خانتي الوقاحة المفرطة، والتعديٍ على حرية ضيوفهم وحيواتهم الخاصة. وآخر الموجات من تلك البرامج، "المتهم" وبرنامج "بلا تشفير".

لا يختلف إثنان على أن لبنان يتمتع بحرية اعلامية، غير موجودة في دول عربية عدّة، وإن كانت منقوصة أحياناً، لكنها تبقى من بين الأفضل على الصعيد العربي. فالبرامج المعروضة في بلادنا تناقش مشاكلنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتتناول أموراً تعتبر خطوطاً حُمر لدى غيرنا، كالجنس مثلاً الذي يعتبر من المحرّمات في تلفزيونات خليجية، أو انتقاد سياسيين...

نحن في لبنان قادرون، من خلال برنامج متخصص أو تقرير تلفزيوني، أن نلاحق وزيراً مثلاً ونتهمه بالفساد، بمهمة الاضاءة فقط على المشاكل وتقديمها للرأي العام. لكن أموراً تتحكم بها العقلية اللبنانية تحول دون أن يتطور الكشف الى محاسبة فعلية، كون هذه العقلية لم تعتد بعد محاسبة الكبار، لأنهم مدعومون أو منتمون الى جهة سياسية نافذة. ومن هنا نقول أن حريتنا الاعلامية منقوصة، لأن ما يكشفه الاعلام من فضائح ومؤامرات، يبقى رهن قوة الشخصية المستهدفة وأهميتها.

البرامج المُشار إليها في الوقت الراهن، هي برامج تسلخ لحم ضيوفها، بأسئلة محرجة عن تفاصيل لا تعني المشاهد، الا من باب الحشرية والتلصص على حياة غيره.. فيظهر الضيف ككومة قش معرّضة للشمس سرعان ما تبدأ بالاحتراق مع مرور الوقت، الى أن تنفجر، فيفقد الضيف أعصابه ويثور، وربما يشتم أو يكسر ما حوله.

أول من اطلق هذه البرامج، الاعلامي طوني خليفة الذي قدم برنامج "لمن يجرؤ فقط" على المحطة اللبنانية للإرسال، قبل أكثر من عقد. هذا الرجل قدّم الى جيل الاعلاميين الذي تلاه، فنون الوقاحة على التلفزيون، وما فيها من تعرض للحرية الشخصية، ومضايقة واحراج، الى أن وصل الامر الى إبكاء بعض الضيوف على الهواء.

من هنا أراد خليفة أن يكرس فعل البكاء على التلفزيون خصوصاً مع من يستضيفهم، وكلنا يذكر حين بكت هيفاء وهبي على الشاشة، إذ أصر على سؤالها عن ابنتها وعلاقتها بها، وما يجمعهما حالياً. علاقة هيفاء بابنتها لا تعني المشاهد بشيء، ولا تقدم أو تؤخر في ما ننجزه يومياً. ما يهمنا هو صورة الفتاة المثيرة التي تقدمها، بغض النظر عما تقدمه.

لم يتوقف الأمر عند طوني خليفة، بل بات معظم البرامج يبحث في كيفية القدرة على إبكاء الضيوف، لزيادة المشاهدة، خصوصاً أن هذا الدمع يؤثر في المشاهد، ويجعله يتعاطف مع الضيف. فراحت البرامج الحوارية الاجتماعية تبحث عن ضيوف بمشاكل معقدة، للالحاح في الأسئلة حول هذه المواضيع، علّ الضيف ينفجر بالبكاء، أو يفقد أعصابه غضباً، فتُقتَنص اللحظة الاعلامية.

الاساسيات التي أرساها خليفة في فنون الوقاحة وقلة الهيبة، تعتمدها برامج حالية مثل "المتهم" الذي يقدمه "مغواران" هما رجا ورودولف، و"بلا تشفير" لتمام بليق.

يستضيف البرنامجان ضيوفاً لسلخ جلودهم على الهواء. مقدّمون حازمون، أقوياء، أشداء، عيونهم تقدح ناراً، وتعابير وجوههم قاسية، تثير الرعب في نفوس الضيوف. يتكلمون كما لو أنهم يملكون كل الحقائق. وحين ينكر الضيف اتهاماتهم، يواجهونه بجملة وقحة "بلا كذب، أو ليه عم تنكر شي انت عملتو؟". هذان الشديدان، سلاحهما أسئلة محرجة وقاسية، بلا وثائق أو أدلة، فقط عبسة وعدم اقتناع بالجواب.

ففي برنامج "المتهم"، غالباً ما لا يقتنع رجا بإجابات ضيوفه. فيبدأ بحديثه "الناعم"، لكن بلهجة مستهجِنة من أجوبة الضيف، وهنا يبدأ ممارسة لعبته المفضلة في توجيه الاتهامات للضيف كأنه يُخفي الحقائق عن المشاهد، أو كأنه لا يتمتع بالجرأة لقول ما فعل. وطبعاً مع تحريك يديه بشكل دائم لدعم موقفه.

أما في "بلا تشفير"، فيحاول تمام بليق أن يستفز ضيفه ويفقده أعصابه، وهنا يسمع المشاهد عبارات من الضيف من نوع "ما خصّك"، فيصرّ بليق على ما يريده، ويزيد جرعة وقاحته.

هل هذه فعلاً برامج حوارية؟ وما الهدف منها سوى الثرثرة ومعرفة أخبار عن مشاهير لا تفيدنا بشيء؟ والغريب في الأمر أن البرنامجين لا يستضيفان نجوم الصف الأول، بل ضيوفاً لا يتمتعون بشهرة واسعة، أو كانوا يتمتعون بها وفقدوها. فاستضاف "بلا تشفير" المغني علاء زلزلي، الذي نسيه الجمهور لطول فترة غيابه عن الساحة الفنية، أو سمير صفير في "المتهم"، والذي غالباً ما يعيد أفكاره ويكررها في معظم مقابلاته. لكن صفير وضع حداً لوقاحة رجا وأوقفه عند حدّه مراراً بتوجيه نقد لاذع له، كان كفيلاً بإسكاته.

تتمتع هذه البرامج بشيء من التمثيل، وبمجرد أنها مسجلة، يفقد المشاهد الواعي ثقته بها. فخلال البث المباشر من غير الممكن التوقف والإعادة، فيظهر كل شيء طبيعياً على الشاشة.. لكن خلال التسجيل، لا يعرف المشاهد ما قد يتفق عليه المقدم والضيف. وفي حال حصل خلاف، قد يكون من السهل حذفه لاستكمال الحلقة.

تسبب هذه البرامج الاهانة للضيوف الذين يشاركون فيها، وكل من يحترم نفسه، لا يسمح لهؤلاء المهرجين باستجوابه كما لو أنه في تحقيق. وللمفارقة، تذكّر هذه البرامج بما كان يحصل في لبنان، حين كان تحت سيطرة القوات السورية. فهي نسخة عما كان يحصل في غرف التحقيق، حيث يريد الضباط السوريون أن يعترف "المتهم" بكل ما يوُجّه اليه، بصرف النظر عن صحة "التّهم".
لم يخطئ الراحل جوزف حرب حين شبّه تلك البرامج بـ"غرف التعذيب".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها